تبقى سوريا تحت الضوء، وبات مصيرها مرتبطاً بما ستؤول إليه إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
تُزاحِمُ إسرائيل المنظومة العربية، التي تتصدّرها المملكة العربية السعودية، لملء فراغ انكفاء إيران منذ 8 كانون الأوّل الماضي عن بلاد الشام. لا يخفي حكّام تل أبيب تفضيلهم تقسيم سوريا، مستفيدين من تأجيج الحساسيّات الطائفية والعرقية، مقابل التمسّك السعودي والتركي بوحدتها. الصدامات بين مناطق درزيّة تزعم إسرائيل حمايتها، وفصائل “منفلتة” مؤيّدة للنظام الجديد، كادت تنزلق إلى فخّ إسرائيلي، وسرعان ما انكشف ادّعاء حماية تل أبيب لدروز سوريا بعدما توهّم بعضهم صدقه.
اتّفاق الأكثرية في الطائفة الدرزية في سوريا مع الحكم الجديد في دمشق، الذي توصّل إليه شيخا العقل في السويداء حمود الحناوي ويوسف جربوع و”رجال الكرامة”، على انتشار الأمن العامّ في السويداء والطرقات المؤدّية إليها، وفي جرمانا، قزّم مطلب “الحماية الدولية” لأقلّية درزيّة نطق باسمها الشيخ حكمت الهجري، و قطع الطريق على التوظيف الإسرائيلي للاضطراب الأمنيّ في بلاد الشام.
انكشاف شعار “حماية” إسرائيل الدروز
استعاضت تل أبيب بقصف منطقة قريبة من القصر الرئاسي في دمشق أمس، عقب نجاح الجهود في وأد صدامات اتّخذت طابعاً سنّياً درزيّاً.
من أسباب هذا القصف أنّ دروزاً في إسرائيل توهّموا قدرتهم على دفع الجيش الإسرائيلي إلى حماية دروز سوريا تظاهر بعضهم في فلسطين المحتلّة لشعورهم بأنّ بنيامين نتنياهو خذلهم، فأمر باستهداف منطقة مفتوحة قريبة من القصر الرئاسي. الرسالة الأخرى من وراء القصف موجّهة إلى تركيا وفحواها أنّ تل أبيب قادرة على إفشال حمايتها لحكم أحمد الشرع.
تحرّك الأمن العامّ السوري لوقف الصدامات بين “الفصائل المنفلتة” التي قدمت من خارجها، وبين المسلّحين الدروز فيها
كانت المفارقة الأولى أنّ الطائرات الإسرائيلية لم تتدخّل، وفق ادّعاء إسرائيل حماية الدروز، حين حلّقت طوال الأربعاء الماضي في سماء بلدة صحنايا، إلّا عندما تحرّك الأمن العامّ السوري لوقف الصدامات بين “الفصائل المنفلتة” التي قدمت من خارجها، وبين المسلّحين الدروز فيها. أدّى قصفها إلى مقتل عنصر من الأمن العامّ، أي أنّ إسرائيل “تفرّجت” من الجوّ على المسلّحين يدخلون البلدة، تاركةً للصدامات أن تأخذ مداها، فيما قصفت وحدات الأمن العامّ عندما حاولت إخراجهم منها.
لا يتردّد بعض القادة السياسيين السوريين واللبنانيين في ترجيح وقوف إسرائيل خلف اندلاع الصدامات الثلاثاء الماضي، بعد انتشار فيديو يتعرّض للنبيّ محمّد نُسبَ إلى شيخ درزي. نفى الأخير صحّته، وكذلك وزارة الداخلية السورية. بدا واضحاً أنّه من تلفيق جهاز مخابرات يدرك الحساسيّات السياسية والمذهبية بين مكوّنين سوريَّين، وأنّها ستنتج ردود فعل طائفية عنيفة. الهدف تسويغ ادّعاء حماية الأقلّية الدرزية.
الدروز
ما يبيّته التسجيل تحقّق أمنيّاً وإن لم تتمّ ترجمته سياسيّاً. تسبّب التسجيل بردّة فعل عسكرية دمويّة ممّن وصفتهم إدارة الأمن العامّ السوري بـ”المجموعات المنفلتة” والفصائل “الخارجة عن القانون” أو “عن الدولة”. هاجم مسلّحون أحياءً درزيّة في بلدة جرمانا في ريف دمشق، التي يقطنها مهجّرون دروز من الجولان، وأدّى الهجوم إلى مقتل مسلّحين دروز بينهم من ينتمي إلى “الأمن العامّ” الحكومي. وشملت ردود الفعل هجوماً في جنوب سوريا على قرية في السويداء حيث أكثريّة الوجود الدرزي… فسقط قتلى، ثمّ على قرية أشرفية صحنايا الدرزيّة المسيحية.
من هي المجموعات “الخارجة عن القانون”؟
التبس الأمر في بعض الإعلام عند وقوع صدامات سنّية درزية فاعتُقد أنّها بين الأجهزة التابعة للدولة السورية وبين مجموعات درزية، فيما هي بين تلك المجموعات وبين الميليشيات “المنفلتة”. الأخيرة هي فصائل متعدّدة من الطائفة السنّية، بعضها متطرّف وتكفيريّ شارك الثوّار في قتال جيش الأسد والميليشيات الإيرانية، وفي الحملة التي انطلقت من إدلب وأسقطت الأسد.
كانت المفارقة الأولى أنّ الطائرات الإسرائيلية لم تتدخّل، وفق ادّعاء إسرائيل حماية الدروز
مع أنّ معظمها أعلن الانضواء في الجيش الجديد، لم يسلّم بعضها أسلحته للدولة التي تلكّأت في جمعه فأبقت رموز درزية في السويداء سلاحها بحوزتها. وبات المجتمع الدمشقي وريف العاصمة يعاني “مشكلة الفصائل” التي لا يتقن معظم عناصرها سوى القتال. وعمل بعضها على توفير الحمايات وأخذ بعضها الآخر يعتاش من الخوّات.
الاستثمار الإسرائيليّ في الحرب السّوريّة
المعروف أنّ أجهزة الدولة العبريّة استثمرت في الحرب الأهلية السورية منذ آذار 2011 حتّى 2024، وأنشأت ركيزة استخباريّة. سهّل هذه الركيزة عاملان:
– التعاون مع أجهزة النظام الأسدي الذي كان يسلّف تل أبيب ضدّ نفوذ طهران لاعتقاده أنّ إرضاء تل أبيب يضمن بقاءه في الحكم.
– التغاضي الروسيّ عن تدخّلها جرّاء التزام موسكو أمن إسرائيل ومن أجل تقليص نفوذ طهران.
سمحت القاعدة الاستخباريّة لتل أبيب باستهداف إيران، ورفدتها بالسعي إلى نسج علاقات مع المكوّن الكردي في الشمال. واعتمدت على علاقة المرجع الدرزي الروحي في فلسطين شيخ العقل موفّق طريف القريب من بنيامين نتنياهو، مع أقلّية في سوريا، لمدّ خطوطها باسم ادّعاء حماية الدروز.
الهدف الأبعد سبق أنّ كشفه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في شباط الماضي بقوله: “نظام الفدرالية اللامركزي هو الأنسب لسوريا في واقعها الحالي”. وهاجم الإدارة السورية الجديدة، معتبراً أنّها “جماعة إرهابية إسلامية جهادية جاءت من إدلب”.
استعاضت تل أبيب بقصف منطقة قريبة من القصر الرئاسي في دمشق أمس، عقب نجاح الجهود في وأد صدامات اتّخذت طابعاً سنّياً درزيّاً
نقطة إضافيّة سلبيّة… وقصور الحوار
لكنّ ما حصل لا يعني أنّ الفخاخ أمام حكّام دمشق الجدد قد زالت. والناشطون السوريون يلفتون المتربّعين على عرش سوريا حاليّاً إلى الآتي:
– سلوك “المجموعات المنفلتة” في المناطق الدرزية وهجماتها العسكرية بخلفيّة مذهبية تسجّل نقطة سلبية في غير مصلحة الحكم الجديد في سوريا. وهي النقطة السلبية الثانية بعد الهجمات التي نفّذتها مجموعات شبيهة في الساحل السوري، حيث ارتُكبت انتهاكات ومجازر ضدّ الأقلّية العلوية. وهو ما ركّزت عليه وزارتا الخارجية الأميركية والفرنسية في ردود الفعل الصادرة عنهما.
إقرأ أيضاً: لا أحد يحسد الشّرع على حكم سوريا
– الحساسيّات المذهبية والطائفية والمناطقية والعرقية في سوريا ما زالت مرتفعة على الرغم من سقوط الأسد. وهذا يدلّ على أنّ الحوار الذي دعا إليه الرئيس الشرع كان شكليّاً وسريعاً، ولم يكن جدّياً لأنّه لم يعالج بالعمق هواجس المكوّنات السوريّة لتجنّب الاحتكاكات، فالأقليّات تشعر بأنّه يجري التعامل معها على أنّها الحلقة الضعيفة في المجتمع.