“في المعادلات الدولية إما أن تكون جالساً إلى الطاولة، وإما أن تكون على الطاولة، ولا وجود لحال ثالثة، عليك ألا تسمح أن تسير الأمور من دونك”، عبارة ربما تلخص الموقف الحقيقي للنظام الإيراني من مجمل الأحداث على الساحة العالمية، تحديداً على الساحة الإقليمية في ظل الحرب التي يشهدها بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، قالها وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف في لقاء مع مثقفين وباحثين قبل أيام في طهران.
وبغض النظر عن الدور الإيراني في ما يجري في غزة من عدمه، وعن الإصرار الأميركي وبعض الدول الغربية على نفي أي دور أو تورط لإيران في ذلك، إلا أن البحث لا بد من أن يذهب إلى ما بعد هذه الحرب والتداعيات التي ربما تنتج منها، إلى المكان الذي لا عواطف فيه والتزام مبدأ الحياد وعدم الحياد، على رغم صعوبة الحياد أمام حساب الخسائر البشرية التي لحقت بالمدنيين من الفلسطينيين وكانت ذروتها في مجزرة استهداف المستشفى المعمداني، وهذا المكان هو ما يتعلق بالمكاسب الإيرانية من نتائج هذه الحرب.
أذكر في إحدى المرات وفي ذروة التصعيد بين إيران والولايات المتحدة، عندما سألته ما هي مآلات هذا التصعيد وهل إيران تسعى إلى مواجهة مع ، بخاصة بعد نشر طهران صور حاملة طائرات أميركية في مياه الخليج؟، قال لي مسؤول إيراني رفيع في أبريل (نسيان) 2007 إن الهدف الذي تسعى إليه إيران هو التصدي للجبروت الأميركي، مضيفاً، في موقف لا يخلو من الاستعراض، “ونريد أن نكسر الصنم الإسرائيلي”.
لا شك في أن ما تعرضت له المؤسسة العسكرية من انتكاسة تفوق كل التوقعات لدرجة أن القيادة الإسرائيلية لم تخرج من صدمتها بعد مرور أكثر من 10 أيام على ذلك، وربما يكون من الصعب عليها لملمة آثارها السلبية في المدى المنظور، خصوصاً ما يتعلق بإعادة بناء الثقة التي انهارت بين المؤسسة العسكرية والمجتمع الإسرائيلي وداخل هذه المؤسسة وقيادتها العسكرية والسياسية.
هذا الانهيار قد يكون المطلب الذي تسعى إليه طهران، ووفّرته لها العملية العسكرية التي قامت بها حركة “حماس”، سواء كانت بالتنسيق مع طهران أو من دون التنسيق معها، لأنها، وبحسب تعبير الوزير السابق للخارجية ظريف، سمحت لإيران بحجز مقعد لها إلى طاولة أي مفاوضات حول مستقبل المنطقة، وأزاحت عن كاهلها التفكير في كيفية وآلية المواجهة والتصدي لتنامي وصعود الدور الإسرائيلي في الإقليم، سواء عسكرياً وأمنياً من خلال التحالفات التي نسجها مع بعض الدول التي تشكل المجال الجيوسياسي الأقرب والمحيط لإيران ويهدد مصالحها الاستراتيجية مثل جمهورية أذربيجان، أو سياسياً من خلال الاتفاقات التي وقعتها تل أبيب مع عدد من الدول العربية، وما يمكن أن يحمله أي تقارب بينها والسعودية من تغيير في التوازنات التي ربما تفرض عليها القبول بها.
ولحجز هذا المقعد إلى الطاولة، فإن المطلوب، بالنسبة إلى طهران وقيادتها، هو الضغط من أجل التوصل لاتفاق يؤدي إلى وقف إطلاق النار والعمليات العسكرية للحرب الدائرة في غزة بين إسرائيل و”حماس” لأن جرّ تل أبيب للقبول بهذا المطلب يشكل بالنسبة إلى طهران نصف انتصار، إذ إنه يقطع الطريق على إبعادها وإبعاد حليفتها “حماس” من أي تسوية محتملة للقضية الفلسطينية، والنصف الآخر من الانتصار، يمكن العمل عليه من خلال التسويات السياسية ومستوى عالٍ من البراغماتية والمصلحية كثيراً ما كانت طهران قادرة على ممارستها في اللحظات الحرجة والمصيرية.
من هنا يمكن القول إن القيادة الإيرانية، ومعها المؤسسة العسكرية، قد لا تكون راغبة في دفع الأمور إلى مزيد من التصعيد الذي يفتح الباب أمام توسيع دائرة النار والحرب باتجاه جهات أخرى في الإقليم إلى جانب جبهة غزة، ولن تكون إيران بمنأى عنها أيضاً، ولعل المعادلة التي رسمها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان خير تعبير عن الرغبة الإيرانية في عدم توسيع دائرة الحرب والدفع باتجاه وقفها عند المستوى الذي وصلت إليه، عندما اعتبر أنه عند سقوط غزة والقضاء على “حماس”، فإن إيران لن تكون قادرة على حماية طهران من سقوط القنابل الفوسفورية، وهي معادلة تشبه إلى حد كبير وتذكر بالمعادلة التي رسمها المرشد الإيراني عام 2012 عندما مهد للدخول الإيراني العسكري إلى جانب النظام السوري لدى اعتباره أن الدفاع عن دمشق هو دفاع عن طهران، وفي حال سقوط دمشق لن نكون قادرين على الدفاع عن طهران.
وما بين محاولة النظام تأمين الحماية والدعم لحركة “حماس” باعتبارها حليفة مفترضة للمحور الإيراني في الإقليم، إلا أن هذا المحور وقيادته سواء في طهران، أو في ضاحية بيروت الجنوبية والأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله اللبناني، مارسوا أعلى مستوى من ضبط النفس لعدم الانجرار إلى هذه المعركة وفتح الجبهة اللبنانية، على مبدأ أن ما يمكن أن يربحوه من هذه الحرب إذا ما استطاعوا التوصل إلى وقف لإطلاق النار، أكثر بكثير مما قد يربحونه في حال توسيع دائرة النار لأن النتائج ربما لا تكون مضمونة، بخاصة أن المعركة لن تقتصر على الجانب الإسرائيلي، بل من الممكن أن تدفع واشنطن إلى الدخول فيها مباشرة، وانطلاقاً من هذه المعادلة يمكن فهم التحذير الذي أطلقه المرشد الإيراني في خطابه أمس الثلاثاء عندما خاطب الإدارة الأميركية محذراً من مغبة استمرار عمليات القصف ضد غزة بعد الدخول المباشر لواشنطن على خط الأزمة، وهو تحذير حاول من خلاله إيصال رسالة بأن تطور الأمور أو انفجار المنطقة لن يكون في مصلحة الجهود المبذولة أميركياً للحفاظ على بقاء الكيان الإسرائيلي، وعلى واشنطن العمل على وقف الأعمال العسكرية في غزة حتى لا يؤدي ذلك إلى انفجار الشعوب التي بدأت تفقد صبرها وقدرتها على التحمل، وعندها سيكون مستقبل وجود إسرائيل في معرض الخطر الحقيقي.