لم يكن ينقص رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو الا هذا الهجوم الذي أودى باثنين من موظفي سفارته في واشنطن، ليحل به حصار دولي وأميركي كاد يحوّل بلاده الى دولة منبوذة إن لم يكن موبوءة.
فما قام به الياس رودريغيز في العاصمة الأميركية دفاعاً عن غزة، تحوّل الى شبه دفاع أوروبي عن “اسرائيل الضحية” بدل الضغط على “اسرائيل الجانية”، والى ترميم لعلاقة متوترة بين نتنياهو والرئيس دونالد ترامب العائد من جولة على الشرق الأوسط أقصى خلالها اسرائيل من محطاته، وتعامل مع رئيس وزرائها من موقع الآمر لا من موقع الحليف، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الأميركية – الاسرائيلية.
وما قام به الرجل، أعاد نتنياهو الى لائحة الحلفاء الذين لا يمكن للأميركيين تجاهلهم أو الاستغناء عنهم، في وقت تمكن الاعلام الاسرائيلي من اعادة ذاكرة العالم الى “السابع من أكتوبر”، أي النقطة التي انطلقت منها تل أبيب لتصفية أذرع ايران الواحدة بعد الأخرى وصولاً الى محاصرة طهران نفسها وحشرها بين النزال أو التنازل.
وأكثر من ذلك، لقد محا هجوم واشنطن المشهد الذي يبدو فيه نتنياهو الرجل الوحيد الذي يجرؤ على تحدي ترامب علناً راسماً مسافة واسعة بين ما يقرره الرئيس الأميركي في مفاوضاته مع ايران وبين ما يراه مناسباً أو مجافياً لأمن بلاده ومصالحها، ومحاولاً أن يطل على شعبه والعالم من موقع مستقل عن أقوى قوة عسكرية في العالم لا من موقع التابع غير القادر على الاستمرار من دونها.
ولم يكن من باب المصادفة أن يرسل طائراته الحربية لقصف مواقع الحوثيين في اليمن بينما كان ترامب في طريق العودة من الخليج بعد ساعات على رفع العقوبات عن سوريا، وأيام قليلة على وقف غاراته على اليمن في مقابل هدنة لم تأخذ في اعتبارها أمن اسرائيل في الداخل وأمن سفنها في البحر.
ولم يكن من باب الصدفة أيضاً أن يقرر نتنياهو توسيع عملياته العسكرية في غزة متجاهلاً دعوة من ترامب لوقف القتال، وملوحاً بقصف المفاعلات النووية الايرانية اذا حاول الأميركيون ابرام أي اتفاق مع طهران لا يفضي الى تفكيك المشروع النووي الايراني عن آخره.
وقد يكون في هذه التحديات بعض المبالغة، لكن التصاريح التي خرجت من البيت الأبيض والخارجية الأميركية، بدت وكأنها أعطت نتنياهو مجدداً الضوء الأخضر للمضي قدماً في اجتياح غزة والقضاء على ما تبقى من ترسانة “حماس” وقادتها، من دون أن توحي أيضاً بأي موقف يحذرها من مهاجمة المنشآت النووية الايرانية.
ولعل هذا التراخي في الموقف الأميركي يعود الى ما يشبه الخيبة من موقف ايران الرافض لتخصيب اليورانيوم من جهة، وعدم الضغط على “حماس” لاطلاق الرهائن من جهة ثانية، وعلى “حزب الله” لتسليم السلاح من جهة ثالثة.
وليست الغارات العنيفة التي تشنها اسرائيل على مواقع الحزب في الجنوب والبقاع الا اشارة اسرائيلية – أميركية الى أن الملف اللبناني لم يعد قابلاً لأي مماطلة من أي نوع، والى أن المندوبة الأميركية مورغان أورتاغوس تحمل الى لبنان رسائل تحذير جديدة مرفقة بعودة الحرارة الى الجنوب وربما بعودة الحرب اليه.
وتكشف مصادر ديبلوماسية أميركية أن ثمة قراراً مشتركاً بين واشنطن وتل أبيب يهدف الى التعامل مع “حزب الله” على غرار التعامل مع “حماس” والحوثيين من دون أي اعتبار لأسلوب السلطة اللبنانية في معالجة موضوع السلاح، موضحاً أن الفريقين اتفقا على أن تطبيق القرار ١٧٠١ بكل مندرجاته يتحول تدريجاً الى مهمة غير لبنانية.
وتضيف المصادر: ان الغارات الاسرائيلية الأخيرة، والعقوبات الأميركية على روافد المال المتدفق من القارة الأميركية وسواها على خزائن “حزب الله”، تدخل في اطار خطة تدريجية يأمل الفريقان في أن تؤدي الى اتفاق في بيروت على تسليم السلاح في مكان وتطبيع العلاقات مع تل أبيب في مكان آخر.
وتذهب المصادر بعيداً الى حد القول إن هجوم واشنطن ترافق أيضاً مع تعثر المفاوضات النووية بين أميركا وطهران وقدم خيار الحرب على أي خيار آخر، الأمر الذي حشر ترامب في الزاوية التي تخيّره بين الاكتفاء بأموال الخليج وترك ايران في سلام، مشيرة الى أن نتنياهو أبلغ الى ترامب أن طائراته الحربية التي تصل الى اليمن قد تتلقى في أي لحظة أوامر بالتوجه نحو ايران اذا خرجت مفاوضات مسقط باتفاق لا يتضمن تفكيك البرنامج النووي في شكل كامل.
وما يساعد نتنياهو في هذا المجال، ثلاثة عوامل أساسية: الأول في غزة حيث ترفض “حماس” اطلاق من تبقى من الرهائن، والثاني في واشنطن التي تحاول الخروج من الشرق الأوسط تاجراً في الخليج وأحادياً في إسرائيل، والثالث تمنع السلطة اللبنانية عن القيام بأي خطوة حاسمة تمنع “حزب الله” من اعادة تكوين نفسه والعودة الى خطوط القتال، معتبرة أن جل ما فعله لبنان حتى الآن في موضوع السلاحين اللبناني والفلسطيني ليس سوى بيانات مكتوبة لا تتضمن أي جدية على الأرض.
وما عزز موقف نتنياهو أيضاً، تصاعد الخوف من عودة “داعش” الى الساحة الشرق أوسطية وتحديداً الساحة السورية، معتبراً رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن دمشق قراراً متسرعاً كان يجب أن يأتي بعد تمكن أحمد الشرع من توحيد بلاده وتأمينها أولاً، ولجم التمدد التركي فيها ثانياً، وابرام اتفاق سلام مع تل أبيب ثالثاً.
ويتردد في الدوائر السياسية والعسكرية في اسرائيل أن ثمة مخاوف من أن يؤدي رفع العقوبات الى فتح أبواب سوريا أمام عودة قوى الممانعة و”داعش” بصفة مستثمرين ورجال أعمال والتغلغل مجدداً في النسيج السوري، تساعدهم في ذلك ممارسات أمنية على الأرض توفر مناخاً جيداً للانتفاضة من جهة والتعامل مع الشيطان من جهة أخرى.
انه في اختصار المسافة التي تفصل بين الأموال التي حصل عليها ترامب من الخليج في مقابل لجم اسرائيل في غزة، والسلاح الذي حصل عليه نتنياهو من أميركا في مقابل لجم “حماس” و”حزب الله” وربما ايران، وانه الميدان الوحيد الذي وجد الرئيس الأميركي نفسه في مواجهة رجل مجنون آخر هو نتنياهو، أي الرجل الذي يحاول افهامه أنه لم يخض كل هذه الحروب كي يبيعه ترامب بحفنة من الدولارات.