قبل ثلاثة أيام أعلنت وزارة السياحة عن استدراج عروض للاستثمار السياحي لعدد من المواقع، من بينها بيت “أبو خليل القبّاني” الذي هناك مطالبات أصلاً بتحويله إلى متحف، أو إلى متحف ومحترف مسرحي يليقان بتكريم الرائد الراحل. في اليوم نفسه أُعلِن عن اجتماع بحث فيه وزير الثقافة مع المركز السوري للإحصاء والبحوث مشروعَ إنشاء منصة إلكترونية لتوثيق العدالة الانتقالية في سوريا، بينما كان وزير التنمية الإدارية (حسب المعلن على صفحة الوزارة) يعقد مع وزير الأوقاف اجتماعاً “خُصص لمناقشة الهيكل التنظيمي لوزارة الأوقاف، كمدخل أساسي لتحقيق التحول المؤسسي الشامل للجهات العامة”!
وحده الخبر الخاص باستثمار بيت أبي خليل القباني أثار استياء محدوداً لدى بعض المثقفين، أما تدخل وزير الثقافة غير المفهوم في موضوع العدالة الانتقالية فلم يثر الانتباه، وكذلك حال اعتبار الهيكل التنظيمي لوزارة الأوقاف مدخلاً أساسياً لتحقيق التحول المؤسسي الشامل للجهات العامة. لكن، رغم الحيوية الظاهرة في سجالات السوريين، نجزم بأن النقاش في أي تفصيل (مما سبق أو غيره) لن يكون من شأنه التقدم خطوة إضافية في مجمل قضايا الشأن العام. جزء من هذه المراوحة في المكان يعود إلى الاصطفاف شبه النهائي بين موالي السلطة من جهة، والذين ليسوا من موالاتها مع اختلاف درجاتهم وأسبابهم.
أخبار كالتي أتت في المستهل يمكن أخذها دلالة على التخبط الحكومي، مما لا يوحي بالثقة بالأداء عموماً. ويمكن، في المقابل، الإتيان بأخبار وزارية “إيجابية” بالمعنى الذي يشير إليه الموالون، وهكذا يبدو الأمر كأنه تنازع بين رؤيتين منحازتين ليس إلا، وبين الذين يمنحون السلطة ثقتهم والذين لا يفعلون ذلك. أيضاً، من وجهة نظر كل طرف ثمة يقين من الثقة أو عدمها، بلا انتباه كافٍ إلى أن تناقضات الوضع السوري الحالي قد لا تكون عفوية، وقد يكون هذا السجال مظهراً مما هو متعمّد أصلاً في تناقضاته.
اليوم مثلاً يستطيع شخص تأكيد منع المشروب الكحولي في مطعم ما في دمشق القديمة، ليأتي شخص آخر ويؤكّد أنه بنفسه تناول الكحول في مطعم آخر في المنطقة ذاتها. تستطيع امرأة سافرة القول إنها لم تتعرض لأية مضايقة تخص ملبسها في بقعة ما من سوريا، بينما يؤكد شبّان أنهم مُنعوا من لبس الشورت في مكان آخر، فيُستنتج أن التعامل مع النساء أشدّ. اشتُهر حديث لمحافظ اللاذقية شكا فيه من قلة حشمة النساء على الشواطئ، وثمة تعميم من مديرية أوقاف دمشق يخص الحشمة في الملبس أثناء الصيف ومراعاة ما سُمّي “حرمة الطريق”، لكن أيضاً يستطيع أي شخص القول إنه لم يلاحظ في دمشق تطبيقاً إلزامياً للتعميم، ما يترك الأمر في حيز الالتزام الطوعي.
سؤال الحواجز عن ديانة ومذهب العابرين ليس قاعدة مطلقة، لكنه مؤكد من قبل كثر تعرّضوا لمهانته، وقد يُعفى منه ركاب سيارة خاصة بفضل وجود نساء محجبات كدلالة رمزية على منبت مذهبي. وإذا شئنا تتبع هذه التفاصيل نحتاج إلى وقت طويل جداً، بما فيها التفاصيل التي تتعارض مع الإعلان الدستوري، ومع إعلان الحكومة الذي ذُكر في أحد بنوده الالتزام بحقوق الإنسان وبالاتفاقيات التي وقعت عليها سوريا من قبل على هذا الصعيد. حالة اللايقين تصل إلى حد وجود اختلاف بين بيان رئاسة الجمهورية في سوريا وبيان رئيس الاتحاد الأوروبي، إثر اتصال الثاني لتهنئة الرئيس الشرع برفع العقوبات الأوروبية عن سوريا. ففي حين أشار بيان أنطونيو كوستا إلى حديث الشرع عن الديموقراطية، لم يذكر بيان الرئاسة هذه الكلمة على الإطلاق.
من جهتها، لا تفعل السلطة ما يوحي بأنها تريد تبديد حالة اللايقين، الأمر الذي يحيل إلى كون اللايقين نهجاً أكثر من كونه تعبيراً عن الفوضى والاعتباطية. ففي دلالة مهمة لم يُسجّل لها محاسبة أحد من مرتكبي التجاوزات أو الانتهاكات، مع وجود حالات لمرتكبي التجاوزات الذين أوقفوا لساعات قليلة، ثم خرجوا على وسائل التواصل متباهين بالإفراج عنهم. ومن التبريرات الشائعة أن قيادة السلطة لا تريد إغضاب قاعدتها الأيديولوجية، لذا تسمح بارتكاب التجاوزات ضمن حدود “محسوبة”، على سبيل إرضاء مؤيديها المتطرفين والتنفيث عن غضبهم.
ينطلق التفسير الأخير من التفاؤل بأن التجاوزات مُسيطَر عليها، وبأنها مؤقتة حتى يحين موعد تمكين تيار الاعتدال فيرغم أولئك المتطرفين على القبول بالأمر الواقع. أصحاب التفاؤل أنفسهم لا يلحظون أن تفسيرهم (المبني على اللايقين) يرضيهم، مثلما ترضي التجاوزات والانتهاكات سواهم، أي أنهم جزء من مؤيدي السلطة التي توضَعُ موضع التكهنات والرغبات؛ تماماً كما هو حال غيرهم الذين لا يملكون إجابات واضحة وقاطعة إزاء الكثير من الأسئلة.
تكسب السلطة من حالة اللايقين بقدر ما تكون توجهاتها أكثر غموضاً، لأن هناك نسبة كبرى من الجمهور الذي يتوسّم بها “خيراً” بقدر ما تسمح بالتناقضات في المرحلة الانتقالية الحالية. بهذا المعنى، تربح السلطة مرتين، مرة باجتذاب أكبر عدد من المؤيدين، وحتى الذين ليسوا خصوماً بعد. ومرة أخرى لأن عدم الحسم، وترك الاحتمالات معلَّقة، يمنعان الانتظام السياسي بمعناه الواسع. فاليوم لا يخفى أن الأنظار مصوَّبة إلى السلطة، والاصطفاف السياسي المقبل سيكون بدلالة ما تستقر عليه من توجهات أيديولوجية وحكومية.
اللايقين ليس حيادياً، فإذا أخذنا مثلاً حادثة مضايقة لامرأة غير محجبة، وفي المقابل عدم مضايقة أمثالها، فالسلوك الأول هو الأبلغ تأثيراً، لأنه سيدفع العديد من النساء إلى تحاشي احتمال المضايقة وتعديل نمط ملبسهن. كذلك هو الحال فيما يخص العديد من أنماط السلوك الاجتماعي، حيث يتجنّب كثر أنماطهم المعتادة كي لا يكونوا ضحايا “تجاوزات فردية”. استمرار الأخيرة هو بمثابة أداة تطويع اجتماعية تعمل في اتجاه وحيد يلتقي مع أيديولوجيا السلطة الحالية، سواء بنسختها السابقة أو الراهنة، أي أن ما يبدو تجاوزات الآن هو استثمار لتطويع مزيد من الجمهور الذي سيصبح أقرب لمزاج السلطة.
ومن حالات اللايقين التي سبق للسوريين اختبارها عندما تكون هناك حالة شك إزاء القانون، ولعل هذه هي الحالة الأساس في الحديث عن تجاوزات، فالقانون موجود نصاً، لكن يحدث التطاول عليه من قوة أعلى من القانون. مع مرور الوقت، تتعزز القناعة بأن السلطة (والأقوياء عموماً) فوق القانون، ما يؤدي إلى الإقلاع عن استخدامه كمعيار، وكآلية دفاعية تحمي الضعفاء. إن حالة اللايقين هنا تحطّم النظام العام بأكمله مع الوقت، ليكون مزاج السلطة غير الصريح أو المدوَّن هو القانون.
فيما يخص التعليق الضمني لدولة القانون، يمكن القول إن سوريا بلد اللايقين منذ عقود، ومغادرة العهد السابق تقتضي العبور السريع إلى الالتزام الذي لا لبس فيه بالقانون، أولاً من قبل السلطة المكلّفة بتطبيقه. إلحاح هذا الالتزام يزداد مع حالة اللايقين السياسية في مرحلة انتقالية تمتد طويلاً، لأن بقاء بلد في حالة شك شاملة سيكون من أكبر مصادر للفوضى التي يتم التحذير منها. وتحسّن حال الحريات السياسية (حتى الآن) غير كاف بغياب المنافسة السياسية وقوانينها الناظمة، لذا يبقى المحك راهناً في الحريات العامة، وفي أن تتجرّع السلطة الإقرار بها بلا لبس أو غموض؛ في النصوص وفي التطبيق الشامل والصارم، أي أن تتجرّع المطلوب منها داخلياً وخارجياً.