في تحوّل استراتيجي غير مسبوق منذ اندلاع الثورة السورية، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية، أمس، الرخصة العامة رقم 25 (General License 25) التي ترفع عملياً كل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا. وتأتي هذه الخطوة تنفيذاً لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 13 أيار الجاري بوقف جميع العقوبات، ضمن رؤية سياسية واقتصادية تتماشى مع مبدأ “أميركا أولاً” وتهدف إلى إعادة التموضع الأميركي في الشرق الأوسط من بوابة الاستثمار وإعادة الإعمار.
صفحة جديدة: ما الذي تغيّر؟
الرخصة العامة رقم 25، التي توصف بأنها الأكثر شمولاً منذ بدء العقوبات الأميركية على دمشق، تسمح بكامل الطيف الاقتصادي من استثمارات مباشرة، وخدمات مالية، وصولاً إلى التجارة بقطاعي الطاقة والبنية التحتية، وكل ذلك مع استثناءات دقيقة تتعلق بالتنظيمات الإرهابية والكيانات المرتبطة بالنظام السابق أو بالدول المدرجة على لوائح العقوبات الأميركية، كإيران وروسيا وكوريا الشمالية.
بالتزامن، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية إصدار إعفاء من “قانون قيصر” لحماية المدنيين، يستمر مبدئياً لمدة ستة أشهر، ما يفتح المجال أمام حلفاء واشنطن- من دول الخليج إلى الاتحاد الأوروبي- للدخول في مشاريع إعادة إعمار واسعة النطاق. هذا الإعفاء، بحسب وزير الخارجية ماركو روبيو، يخضع لمراقبة الكونغرس، لكنه يصبّ بوضوح في “مصلحة الأمن القومي الأميركي من خلال استقرار المنطقة وتقليص نفوذ الخصوم”.
رهانات على حكومة جديدة ونظام مختلف
تصريحات الادارة الأميركية تراهن على تغيّر جذري في بنية الدولة السورية، مشيرةً إلى أن الحكومة الجديدة في دمشق “لا تُشبه النظام السابق”، بحسب وصف السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك. وأكّد براك أن اللقاء الذي جرى في أنقرة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته هاكان فيدان، والوفد السوري بقيادة فاروق الشرع، كان “تاريخياً وتأسيسياً”، ويمثّل نقطة انطلاق لمرحلة جديدة عنوانها “سوريا المفتوحة للبزنس”.
هذا التوصيف، الصادر من شخصية مقرّبة من ترامب ومؤثرة في صنع القرار الأميركي، يُظهر مستوى الثقة الأميركي بالتغيير السياسي في دمشق. براك، رجل أعمال سابق وسفير حالي في أنقرة، يشكّل اختياره مبعوثاً خاصاً إلى سوريا إشارة إلى أولوية الملفّ اقتصادياً وديبلوماسياً على حدّ سواء.
دور الجالية والرافعة الخليجية
في الولايات المتحدة، لعبت الجالية السورية دوراً محورياً في الدفع باتجاه إلغاء العقوبات، حسبما أشار الحقوقي السوري تقي الدين، أحد أبرز الأصوات داخل لوبي الجالية، لـ”لبنان الكبير”. واعتبر أن الدعم الخليجي، وخصوصاً السعودي، كان “الفيصل في إقناع الادارة الأميركية باتخاذ قرار الإلغاء”، مؤكداً أنّ الضغط لن يتوقف مع الإعفاء الجزئي، بل سيستمر لدفع الكونغرس إلى إلغاء “قانون قيصر” بالكامل.
هذا الرأي تقاطع مع ما أكّده آرام الدوماني، أمين سر التحالف السوري الوطني، المقيم في واشنطن دي سي، في حديثه لـ”لبنان الكبير”، وقال إن “ديناميكية القرار الأميركي في رفع العقوبات نابعة عن آلية الرئيس ترامب وسياسته، وهي سياسة المصالح والتجارة البحتة. فالقرار، بكل صدق، أتى كما نقول بالعامية كرمى لعيون بن سلمان. لم يأتِ لشيء آخر، فالضغوط السعودية والخليجية والتركية وحتى الأوروبية كانت مجدية تماماً ومؤثرة على إدارة ترامب، لكن الدفع المحوري كان نتيجة لدور السعودية والصفقات المبرمة، وكان طلباً شخصياً من حليف موثوق للولايات المتحدة”.
وتابع الدوماني: “اليوم يجب على الحكومة السورية استغلال كل هذه الأيام وتقديم نموذج يُشجّع الكونغرس على إلغاء القانون كلياً. بل يجب استغلال الاستثمارات الأميركية، فكلما غرقت استثمارات أميركا في سوريا، بات من الصعب تجديد الرخص. نحتاج إلى عقلية شديدة البراغماتية لجذب الاستثمارات الأوروبية والأميركية، التي ستُحول دون تجديد العقوبات نهائياً”.
إعادة تشكيل المشهد وسط التحديات
الرخصة الجديدة تتضمن أيضاً رفع القيود على المصرف التجاري السوري، مع إعفاء استثنائي من شبكة مكافحة الجرائم المالية (FinCEN) يسمح بإعادة ربطه بالمصارف العالمية. هذه الخطوة، وفق خبراء، تفتح المجال أمام النظام المالي السوري للعودة إلى الساحة الدولية بعد عزلة استمرت أكثر من عقد، وتُعيد الثقة للمستثمرين المحتملين في قطاعات حيوية كالبنى التحتية، والاتصالات، والطاقة، والصحة.
على الرغم من الأجواء الإيجابية، تبقى الأسئلة الكبرى معلّقة: هل ستتمكّن الحكومة السورية الجديدة من الإيفاء بوعودها المتعلقة بضمان الحريات، وحماية الأقليات، ووقف أي دعم غير مباشر لمجموعات متطرفة؟ وهل ستنجح الولايات المتحدة في ضمان ألا تتحوّل سوريا إلى ساحة نفوذ صيني أو روسي مرة أخرى؟
واشنطن، من جانبها، تقول إنها “لن تتسامح مع أي خرق”، وإنّ أي انتهاك سيُقابل بعودة العقوبات عبر مسارات قانونية قائمة. وفي هذا السياق، تستمر وزارة الخزانة في مراجعة أسماء الأفراد والكيانات المستثناة من الإعفاء، وتؤكد أنها “تُبقي على أدوات الردع جاهزة”.
ما يجري اليوم ليس مجرد تعديل في السياسة الأميركية تجاه سوريا، بل هو بداية لهندسة جيوسياسية جديدة في المنطقة. “سوريا مفتوحة للبزنس” لم تعد شعاراً دعائياً، بل سياسة رسمية تؤطّر تحالفاً إقليمياً أميركياً-خليجياً-تركياً عنوانه: ما بعد الأسد، ما بعد العقوبات، وما بعد الهيمنة الايرانية.