بينما تستعيد سوريا موقعها الإقليمي والدولي بخطى متسارعة، يواجه لبنان خطر التهميش الكامل، عالقاً في مستنقع من الشلل السياسي والانهيار الاقتصادي وفقدان السيطرة السيادية. القطار الإقليمي ينطلق بسرعة، ولبنان ليس حتّى في محطّة الانتظار.
في الوقت الذي تحتلّ فيه سوريا مركز الاهتمام الإقليمي والدولي، يخسر لبنان تدريجياً مكانته التقليدية كلاعب محوريّ في معادلات الشرق الأوسط. كانت بيروت تاريخيّاً مساحة للتقاطع الدبلوماسي والحوار العربي والدولي، لكن اليوم، مع الانهيار الداخلي وغياب القرار السيادي، تتراجع أهميّته في نظر العواصم الكبرى التي باتت ترى في دمشق ما بعد الأسد شريكاً أكثر واقعية واستقراراً. مشاريع الاستثمار، والتنسيق الأمنيّ، وحتّى المبادرات السياسية باتت تدور حول سوريا، فيما يغيب لبنان عن الطاولة، وكأنّه فقد صوته وموقعه في لحظة إعادة تشكيل المنطقة. وفي حال استعادت سوريا استقرارها وفعّلت مسؤوليّاتها قد تلجأ الدول الفاعلة في المنطقة إلى استحداث دور سوريا في لبنان، وهو ما سيثير حساسيّة لبنانية نتيجة ممارسات النظام السوري السابق وتاريخ العلاقات التي كانت تهدّد استقلالية لبنان.
بينما تستعيد سوريا موقعها الإقليمي والدولي بخطى متسارعة، يواجه لبنان خطر التهميش الكامل
خارج حسابات الإقليم
في أعقاب سقوط نظام بشّار الأسد وصعود الرئيس أحمد الشرع إلى سدّة الحكم في دمشق، تشهد المنطقة مرحلة إعادة تموضع استراتيجيّة تُعيد رسم خريطة النفوذ والتحالفات. فخلال قمّة الرياض، شكّل اللقاء بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الشرع إعلاناً سياسياً واضحاً لعودة سوريا إلى المسرح الدولي. دعمت هذه العودة تركيا ودول الخليج، ولا سيما السعودية والإمارات، التي مارست نفوذها للحصول على اعتراف دولي سريع بالحكومة السوريّة الجديدة، وفتح الباب أمام الاستثمارات وخطط إعادة الإعمار.
في المقابل، لبنان الذي لطالما كان خاضعاً للنفوذ السوري، يجد نفسه اليوم مهمّشاً، عاجزاً عن استغلال هذا التحوّل الجيوسياسي لمصلحته، لا بل مهدّد بأن يُترك نهائيّاً خارج حسابات الإقليم.
في جوهر أزمة لبنان تقبع معضلة بنيوية مزمنة: سلاح “الحزب” الخارج عن سلطة الدولة. على الرغم من المطالبات الدولية والمحلّية بإخضاع هذا السلاح للشرعية اللبنانية، لم تتّخذ أيّ حكومة موقفاً حاسماً، سواء بسبب التوازنات الداخلية أو الخوف من التصعيد. النتيجة؟ سيادة منقوصة، وقرار وطني مرتهَن، وغياب كامل لهيبة الدولة.
في أعقاب سقوط نظام بشّار الأسد وصعود الرئيس أحمد الشرع إلى سدّة الحكم في دمشق، تشهد المنطقة مرحلة إعادة تموضع استراتيجيّة
مع عودة سوريا إلى النظام العربي، وانخراطها في تحالفات جديدة تقلّص من اعتمادها على إيران، يزداد التناقض حدّةً في لبنان، حيث لا تزال العلاقة العضوية بين “الحزب” وطهران تحكم معادلات الداخل والخارج. يُضعف هذا التناقض موقف لبنان، ويجعله أقرب إلى “الحالة الشاذّة” في محيطٍ يبحث عن الاستقرار والتوازن.
على عكس سوريا التي استعادت موقعها الإقليمي بدعم ورعاية قوى مؤثّرة، يفتقر لبنان إلى أيّ راعٍ إقليميّ أو دولي يسوّق قضاياه ويدافع عن مصالحه. لا موقف خارجيّاً موحّداً، لا دبلوماسية فعّالة، ولا رؤية سياسية واضحة. وبينما تستخدم الرياض وأنقرة نفوذهما لتوجيه القرار الدولي، يبقى صوت لبنان خافتاً في أروقة المؤتمرات، غائباً عن الطاولة التي تُرسم فوقها خرائط النفوذ والاستثمارات.
لحظة حاسمة
يُضعف هذا الفراغ السياسي قدرة بيروت على جذب أيّ دعم أو شراكة، ويتركها عرضة لأن تُستثنى من مبادرات التعاون أو مشاريع الإعمار التي تتشكّل حول سوريا الجديدة.
في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة الاستعدادات لإعادة إعمار سوريا، لا يزال الاقتصاد اللبناني في سقوط حرّ. الليرة متهاوية، القطاع المصرفي مشلول، والخدمات العامّة في حالة موت سريري. لا رؤية اقتصادية، ولا خطّة إصلاح، ولا اتّفاق مع صندوق النقد الدولي. وفي ظلّ طبقة سياسية ترفض التخلّي عن امتيازاتها، تبتعد فرص الإنقاذ، بينما تتّجه الاستثمارات الإقليمية نحو دول أكثر استقراراً وجرأة في الإصلاح.
مع عودة سوريا إلى النظام العربي، وانخراطها في تحالفات جديدة تقلّص من اعتمادها على إيران، يزداد التناقض حدّةً في لبنان
على الرغم من تحسّن الوضع الأمنيّ في سوريا، لا تُظهر مؤشّرات النزوح أيّ تغيير ملموس، إذ لا يزال لبنان يستضيف أكثر من مليون لاجئ سوري يشكّلون ضغطاً هائلاً على البنية التحتية والاقتصاد وسوق العمل، ويزيدون من التوتّرات الاجتماعية.
يكمن الخلل الأخطر في لبنان في مؤسّسات الدولة نفسها، التي تآكلت بفعل الفساد والمحاصصة الطائفية. الإرادة السياسية للإصلاح معدومة، والطبقة الحاكمة تواصل تعطيل أيّ مسار قد يُهدّد امتيازاتها. ومع غياب الثقة الشعبية والدولية، يبقى أيّ دعم خارجي مؤجّلاً حتّى إشعار آخر.
حتّى الحلفاء العرب التقليديون الذين لطالما اعتبروا لبنان شقيقاً لا يتجزّأ، بدأوا بالابتعاد والتركيز على شركاء أكثر جدّية والتزاماً بالإصلاح، كما هو الحال مع سوريا ما بعد الأسد.
لبنان اليوم أمام لحظة حاسمة. فبينما تعود سوريا إلى النظام العربي وتتقدّم على مسار الاعتراف الدولي والاستثمار، يزداد خطر أن يُمحى لبنان من المعادلة الإقليمية، محكوماً بطبقة سياسية ترفض مواجهة معضلاته البنيوية، وأولاها سلاح “الحزب”، وتكتفي بإدارة الانهيار بدل تغييره.
إن لم يبادر لبنان إلى إعادة بناء الدولة واستعادة قراره السيادي والانخراط في إصلاح جذري، فإنّ فرصته في الانخراط بالمنطقة الجديدة ستضيع.