–
العبث الكوني شعار المرحلة، كذلك العدمية. يُرصدان في كل كلمة تصدر عن دونالد ترامب والببغاوات المقاولين العقاريين من فريق عمله. وقد صار نافلاً القول إن النظام العالمي الذي نعرفه انتهى، ذلك الذي أرسي بعد انتهاء الحرب الباردة وكل تنويعاته الدولية والإقليمية، تلك التي طرأت بعد غزو صدّام الكويت ثم “11 سبتمبر” (2001) وغزو العراق (2003). الأحادية الأميركية بوصفها قائدة لتحالف غربي عريض ضد روسيا والصين أو أعداء مرحليين، انتهت. أمست أوروبا شبه عدوّة لأميركا بمصطلحات ترامب نفسه، وروسيا أقرب إليه منها. النظام العالمي الذي عرفناه والذي دمّره ترامب في ولايته الثانية كان فيه جور وظلم كبيران، ولكنه كان نظاماً، اسم على مسمّى، قواعده وقوانينه معروفة، كذلك حلفاؤه وفوائده وأعداؤه والمستفيدون منه والخاسرون، فضلاً عن سبل مواجهته وطرق اقتناص الفرص منه. كل ذلك تبخّر ليصبح الكوكب مشرعاً على أكثر أشكال العلاقات الدولية بدائية وفوضى ووقاحة، تلك التي تكون فيها أميركا فائقة القوة لكنها لا تعبأ سوى بالعائدات المالية لتلك العضلات، طالما أنه لن يحدث تمرد على تفوقها العسكري المطلق من قبل مشاغبين يُكلف وكلاء إقليميون بضبطهم. وكلاء غير مطلوب منهم سوى دفع الثمن نقداً للوكيل الأميركي، وطبعاً الاعتراف بسمو أميركا وسيادتها على العالم عسكرياً واقتصادياً، وهذان وحدهما تعريف السياسة في هذا “النظام” العالمي الجديد أو فوضاه. فيه، تُشطب السياسة وتقاليدها من كل علاقات أميركا الخارجية على حساب المصلحة الاقتصادية ــ المالية المباشرة، مع أيّ كان، روسيا أو الحلفاء الغربيين السابقين أو الصين، وجميعهم متساوون في المنظور الأميركي شرط أن يعترفوا بأن أميركا هي الأقوى والأغنى. الديمقراطية والأيديولوجيا والقيم والمصالح المشتركة والليبرالية والهموم الكونية كالبيئة والكارثة المناخية العالمية والجوائح الآتية وحقوق الإنسان، صاحبة المكانة الوازنة في النظام القديم، باتت في غابة اليوم من سمات “اليسار الراديكالي”، تهمة أشبه بمفردات النازية بعد سقوط هتلر وشعارات الشيوعية ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
والإمبريالية كانت مصطلحاً محورياً في معجم معارضي النظام الدولي “القديم”. الإمبريالية بتعريفها اللينيني الكلاسيكي، بوصفها أعلى مراحل الرأسمالية وما ينتج عن ذلك من حروب واحتلال وإسقاط أنظمة وإقامة أخرى مكانها وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات ومؤسسات “بريتن وودز”. لكن الإمبريالية في “النظام” الدولي الحالي استعادت وحشية كانت قد خسرتها بفعل تقدم الزمن، فمن كان يتصوّر في “النظام القديم” أن يجاهر رئيس أميركي بأنه يريد ضمّ كندا أو غرينلاند أو بنما إلى أميركا؟ لم يحصل ذلك إلا في عهد دونالد ترامب، المدمن على وجبات الماكدونالد، وهذا ليس تفصيلاً في فهم شخصية هذا الكائن وأخلاقه ومعلوماته واتزانه العقلي وأذواقه وآرائه ونظرته إلى العالم.
في غابة ترامب حصراً، يُعاد تعريف المفاهيم ويأتينا ملياردير غربي ليشتم الإمبريالية والغرب معاً. هو متحدر من جدّين لبنانيين من زحلة في البقاع (شرق)، يُدعى توماس برّاك. سفير أميركا لدى تركيا، وصديق ترامب منذ 40 سنة، متهم بفساد كبير وموبقات عديدة، مقاول عقاري كصديقه الرئيس، لكنه يبدو أكثر نجاحاً منه بما أنه مالك ومؤسس إحدى أكبر شركات التطوير العقاري في العالم (Colony Capital)، والتي تجمع في اسمها مكوّنَي الإمبريالية، الاستيطان ورأس المال معاً. يكتب برّاك على منصة إكس، في يوم تعيينه مبعوثاً أميركياً خاصاً إلى سورية في 25 مايو/ أيار الحالي، مانيسفتو عجيباً لا شك أنّ كثراً من معتنقي النظريات العالمثالثية وشيوعيين جدد وشعبويين يساريين أعجبهم وأعادوا اقتباسه، يروي فيه أنه “قبل قرن، فرض الغرب خرائطه وانتدابه والحكم الأجنبي ورسّم الحدود. (اتفاقية) سايكس بيكو قسمت سورية والمنطقة من أجل غايات إمبريالية لا من أجل السلام… لن نكرّر ذلك مجدداً… إنّ زمن التدخل الغربي ولّى، والمستقبل يعود إلى حلول إقليمية…”. كل ذلك ليشرح برّاك هذا أنّ إدارته تكلّف تركيا ودول إقليمية أخرى بالإشراف على شؤون سورية، فيسهب في الثرثرة ويستخدم كلمات كبيرة بلا أي احترام لذكاء قرّاء يعرفون معنى الإمبريالية وموقعه هو ورئيسه في إعرابها بوصفهما رمزين لها.