ملخص
لم ينجح ترمب حتى الآن في وقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كما ترك الحرب تشتعل في غزة لأشهر طويلة، لكنه في ملف إيران يبدو عازماً على إحداث إنجاز مختلف انطلاقاً مما يصفه الكاتب والمحلل السياسي جيرارد بيكر، بالسعي إلى تحقيق المصلحة الوطنية الأميركية، مجرداً من المثالية، ضمن مزيج غير مألوف من المادية وواقعية السياسة الخارجية.
بعد تصريحات ترمب التي توقع فيها خبراً جيداً خلال يومين في شأن المفاوضات النووية مع إيران، واستمرار حديث مؤيدي الرئيس عن براعته في عقد الصفقات، وأنه قد يكون قادراً على تحقيق ما يعادل “لحظة نيكسون في الصين” مع الإيرانيين، إلا أن كثيراً من المراقبين في واشنطن يرون أن ترمب أبعد من أن يحقق “لحظة نيكسون في الصين”، فما أوجه التباين والاختلاف بين الإيرانيين والصينيين في تعاملهم مع الولايات المتحدة، ولماذا يعاني البعض في واشنطن من سوء فهم للسياق الحالي مع إيران؟
عقيدة ترمب
منذ عودته إلى البيت الأبيض، يبدي الرئيس دونالد ترمب استعداده للحوار، ولإبرام صفقة مع إيران، مع التهديد الضمني إما بأن الولايات المتحدة ستتحرك عسكرياً أو ستسمح للإسرائيليين بالتحرك عسكرياً، لإجبار الحكومة في طهران على تقديم تنازلات واسعة النطاق خلال جولات المفاوضات، لم تكن تخطط لتقديمها.
وعلى رغم أن المفاوضات لم تحقق سوى تقدم بسيط وحذر حتى الآن بسبب تباين وجهات نظر الطرفين حول تخصيب اليورانيوم، فإن الرئيس الأميركي يعتقد أنه استطاع إثبات قوة وصفتها صحيفة “وول ستريت جورنال” بعقيدة أو “مبدأ ترمب”، القائم على واقعية السياسة الخارجية، للتفاوض على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
ووفقاً للخبير الاستراتيجي السياسي المحافظ سكوت جينينغز، الذي عمل في إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش ومستشاراً لزعيم الغالبية الجمهورية السابق في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، “غير ترمب التركيز في العقيدة الاستراتيجية الجمهورية التقليدية، التي كانت تتحدث سابقاً عن شن الحرب، وهو الآن يتحدث عن صنع السلام بالقوة، وهي استراتيجية رونالد ريغان الناجحة التي أنهت الحرب الباردة بانهيار الشيوعية على النمط السوفياتي من دون أن تضطر الولايات المتحدة إلى إطلاق رصاصة واحدة”.
حل موقت أم انتصار استراتيجي؟
ولأن ترمب يريد السلام قبل كل شيء كما يقول بنفسه، سيكون الاختبار هو ما إذا كانت محاولاته للتوصل إلى صفقات مع “الدول المعادية” مثل روسيا وإيران مجرد حلول موقتة أم انتصارات استراتيجية طويلة الأجل.
لم ينجح ترمب حتى الآن في وقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كما ترك الحرب تشتعل في غزة لأشهر طويلة، لكنه في ملف إيران يبدو عازماً على إحداث إنجاز مختلف انطلاقاً مما يصفه الكاتب والمحلل السياسي جيرارد بيكر، بالسعي لتحقيق المصلحة الوطنية الأميركية، مجرداً من المثالية، ضمن مزيج غير مألوف من المادية وواقعية السياسة الخارجية.
وفي عهد ترمب، لم تعد أميركا تسعى إلى إعادة تشكيل العالم على صورتها كما يقول خبير الأمن القومي إيلي ليك، فمن وجهة نظر ترمب، فإن كيفية تنظيم الحكومة داخلياً سواء كانت جمهورية ديمقراطية ليبرالية أم دولة بوليسية قمعية، لا علاقة لها بالمصالح الوطنية الأميركية، لأن ما يهم هو سلوك تلك الدولة، وإذا رعت إيران الإرهاب وسعت لامتلاك سلاح نووي، فسيلجأ ترمب في الأقل إلى الإكراه الاقتصادي والتهديد بالعمل العسكري لمعاقبة إيران على مغامراتها.
ويلاحظ ليك أن وعد ترمب الانتخابي بإبعاد أميركا عن الحروب الخارجية الجديدة يلقى صدى عميقاً لدى ناخبيه من الطبقة العاملة المؤيدين لحركة “ماغا” (لنجعل أميركا عظيمة مجدداً)، فمعظم أبنائهم وبناتهم في الجيش الأميركي هم من تعرضت حياتهم للخطر بسبب تورط الولايات المتحدة في حروب الشرق الأوسط الممتدة في أفغانستان والعراق، بدعم من الرؤساء السابقين وبتأثير من مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن.
يرى مراقبون أن ترمب بدّل التركيز في العقيدة الاستراتيجية الجمهورية التقليدية التي كانت تتحدث سابقاً عن شن الحرب، وهو الآن يتحدث عن صنع السلام بالقوة (أ ف ب)
لحظة نيكسون في الصين
وانطلاقاً من هذه العقيدة، يشير بعض المحللين السياسيين في واشنطن إلى أن ترمب ربما يرغب بقوة ظاهرة في خلق لحظة تعادل لحظة نيكسون في الصين، حينما أذهل الرئيس السابق ريتشارد نيكسون العالم بإعلانه عام 1971 عن خططه للسفر إلى بكين للقاء الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، تماماً مثلما صدم ترمب الأميركيين وحلفاءه بتأكيده موافقته على لقاء زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون خلال دورته الرئاسية الأولى. والآن يلمح إلى قرب التوصل إلى اتفاق مع إيران إذ لن يكون من المستغرب في سيناريو مماثل أن نشاهد ترمب (المولع بلقاءات الخصوم لتسجيل لحظات تاريخية)، يلتقي المرشد الإيراني علي خامنئي أو الرئيس مسعود بزشكيان في صورة غير مسبوقة ربما لم تدر بخلد السياسيين حول العالم منذ 46 عاماً حينما انطلقت الثورة الإسلامية في طهران وبدأ معها العداء الطويل بين الولايات المتحدة وإيران.
تحول جيوسياسي
لكن الاختراق الدبلوماسي الذي حققه نيكسون مع الصين عام 1972 مثل نقطة تحول في الجغرافيا السياسية للحرب الباردة، إذ انتصرت الواقعية السياسية على الجمود الأيديولوجي، فبعدما شيد نيكسون مسيرته السياسية المبكرة على معاداة شديدة للشيوعية، شكل قراره بمد غصن زيتون للصين في عهد ماو تسي تونغ انقلاباً استثنائياً أذهل المجتمع الدولي.
ومع ذلك كانت وراء هذا التناقض الظاهر رؤية براغماتية، فمن خلال استغلال الخلاف الصيني السوفياتي المتنامي، سعى نيكسون ووزير خارجيته، مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، إلى إعادة التوازن للساحة العالمية لمصلحة أميركا في وقت بدا فيه أن قوة الولايات المتحدة تتضاءل وسط مستنقع حرب فيتنام.
في ذلك الوقت، لم يكن الانقسام الصيني السوفياتي مجرد خلاف أيديولوجي، بل عكس هيمنة القومية الراسخة على الأيديولوجية العابرة للحدود الوطنية، إذ ثبت أن التضامن الشيوعي لم يكن كافياً للتغلب على قرون من التنافس الجيوسياسي بين هاتين القوتين المتجاورتين. وتكمن عبقرية نيكسون في إدراكه أن هذه الانقسامات لم تكن انحرافات موقتة، بل انقسامات جوهرية تمكن من استغلالها لإعادة تشكيل توازن القوى العالمي، وحول من خلالها بفعالية الموقف الاستراتيجي الأميركي من مواجهة جبهة شيوعية موحدة إلى نقطة ارتكاز منحت واشنطن نفوذاً ومرونة أكبر.
وبعد وفاة ماو طبع خليفته دينغ شياو بينغ العلاقات مع الولايات المتحدة بعد تنازل واشنطن عن الاعتراف بالحكومة المنافسة في تايبيه كممثل شرعي للصين، ومن هنا وضع دينغ الصين على مسار التحرير الاقتصادي، ممهداً بذلك الطريق لصعود بلاده إلى الصدارة العالمية في بداية القرن الـ21.
تباين هائل
في المقابل، يبدو التباين هائلاً بين لحظة نيكسون في الصين ولحظة ترمب مع إيران، حيث تبدو السياسات والمشاعر لدى القيادة الصينية في بداية السبعينيات والقيادة الإيرانية الآن مختلفة تماماً حيال الولايات المتحدة، فحينما ذهب وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر إلى بكين للتحضير لزيارة ريتشارد نيكسون للرئيس ماو، انزعج لوجود لوحات إعلانية ضخمة في العاصمة الصينية تدعو إلى إبادة أميركا، وعندما سأل الزعيم الصيني عما إذا كان حقاً يرغب في التقارب مع أميركا بينما تنتشر هذه اللوحات في الشوارع، ضحك ماو، ولوح بيده قائلاً “لا تقلق في شأنها، إنها مجرد مدافع فارغة”.
لكن في السياق الإيراني، “لا يبدو أن شعار ‘الموت لأميركا’ مدفع فارغ لا يؤمنون به”، بحسب كبير الباحثين المتخصص في الشأن الإيراني في مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي”، كريم سجادبور، “لأن المرشد الإيراني علي خامنئي لا يزال يؤمن إيماناً راسخاً بأنه جوهر رؤيته للعالم، بل يعتقد أن وجود خصم خارجي يتمثل في الولايات المتحدة أمر بالغ الأهمية لبقاء النظام، وهو يخشى بشدة أن يشكل التقارب الأميركي- الإيراني تهديداً وجودياً أكبر بكثير لإيران من القنابل الأميركية التي تسقط على المنشآت النووية الإيرانية”.
تهديد وجودي
وعلى رغم أن العقود الماضية شهدت ظهور خصوم مشتركين بين أميركا وإيران مثل العراق في عهد صدام حسين، و”داعش” خلال الأعوام الأخيرة، فإنه بالنسبة إلى خامنئي الذي يحكم إيران منذ عام 1989 فقد وضع أميركا وإسرائيل على رأس قائمة أعدائه باستمرار، وأصبح هذا مع مرور الزمن جزءاً أساسياً من شرعية النظام في طهران.
وعلى هذا الأساس، ستكون لحظة ترمب مع إيران من أبرز نقاط الخلل للرئيس الأميركي ومبعوثه المختار في هذا الملف، ستيف ويتكوف، ذلك أن الجانب الإيراني يتردد في المشاركة في هذه المحادثات، ودافعه وراءها هو تجنب هجوم عسكري إسرائيلي أو أميركي، وتجنب حملة عقوبات أخرى بفرض أقصى قدر من الضغط، ومن ثم فإن دافع الإيرانيين ليس أبداً تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، الذي يعد تهديداً وجودياً، على عكس ما فعلت الصين في عهد نيكسون.
فصل الأعداء
وإذا كانت استراتيجية نيكسون نجحت في التقارب مع الصين لمواجهة عدو أهم هو الاتحاد السوفياتي الذي كان يمثل مركز الثقل الأبرز، فإن استراتيجية ترمب لفصل العلاقة بين إيران والصين وروسيا الآن، ليس متوقعاً أن تكون ناجحة إلى حد بعيد، ليس فقط لأن القيادة الإيرانية ستفضل الاستمرار في الانعزال عن الولايات المتحدة والغرب، بل أيضاً لأن علاقة طهران مع كل من بكين وواشنطن ليست بنفس الأهمية مقارنة بثقل العلاقة بين موسكو وبكين الشيوعيتين في سبعينيات القرن الـ20.
وهناك اختلال واضح في التوازن لأن الصين وروسيا أهم بكثير بالنسبة إلى إيران من أهمية إيران بالنسبة إلى هما، حيث يذهب 90 في المئة من صادرات النفط الإيراني إلى الصين وهي نسبة تتراجع بسرعة مع حملة الضغط القصوى لترمب. كما يشير المسؤولون الصينيون عند اتهامهم بإقامة علاقات وثيقة مع إيران، إلى أن حجم تجارتهم مع شركائهم الخليجيين ربما يزيد على ضعف حجم تجارتهم مع إيران، وأن قياداتهم العليا زارت قادة الخليج واجتمعت بهم بانتظام، بينما لم تزر إيران.
وبالنسبة إلى روسيا، تظهر أهمية العلاقة مع إيران وبصورة موقتة في الناحية العسكرية، حيث قدمت طهران مسيراتها القتالية لدعم الروس في حربهم مع أوكرانيا بينما تطمح إيران بتجديد دفاعاتها الجوية من روسيا والتي دمرتها إسرائيل في المواجهات الأخيرة بين الجانبين، لكنها أهمية قد تكون موقتة، في حين أن لدى الجانبين اقتصادين تنافسيين يصدران النفط والغاز حيث تستفيد روسيا من عزلة طهران، ففي حين تمتلك إيران على الأرجح ثاني أكبر احتياطات مؤكدة من الغاز الطبيعي، تظل بالكاد ضمن أكبر 15 دولة من حيث الصادرات نظراً إلى عزلتها الشديدة، وهذا مفيد لروسيا.
ولأن الإيرانيين لا يمتلكون التكنولوجيا، وليس لديهم القدرة على تسييل الغاز الطبيعي، شكل هذا طفرة لروسيا لأنه منحها نفوذاً هائلاً على أوروبا، ولم تنافسها إيران في أسواق الغاز الأوروبية.
من جهة أخرى وفي حين نجح نيكسون في حث الصين على تخفيف دعمها حكومة فيتنام الشمالية في هانوي، ممهداً الطريق للانسحاب النهائي للقوات الأميركية من فيتنام في العام التالي، اكتسب “ورقة الصين” الأقوى ليستخدمها ضد الاتحاد السوفياتي في مجال ضبط الأسلحة وغيرها من الشؤون الدبلوماسية العالمية، بينما لا تزال إيران محوراً لعديد من مخاوف الأمن القومي الأميركي.
من الواضح أن الانتشار النووي يمثل جزءاً كبيراً من هذه المخاوف التي يمكن أن تنتهي أو في الأقل تتعطل لفترة من الزمن، لكن حتى ستة أشهر مضت، كانت إيران تهيمن على أربع دول عربية هي سوريا ولبنان والعراق واليمن، فضلاً عن دعمها غزة، ونتيجة لتطور الصراع منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لم يعد نظام الأسد في سوريا موجوداً، وضعفت قوى “حزب الله” و”حماس” بصورة كبيرة، وأصبحت الميليشيات الشيعية في العراق والحوثيون في وضع هش.
ومع ذلك يرى كريم سجادبور أن “إيران لا تزال واحدة من أقوى الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط”، ويتوقع أن “يستمر الإيرانيون في إظهار قوتهم، فعلى رغم تعرضهم لضربة موجعة خلال الأشهر الستة الماضية، فإن عزيمتهم لم تضعف”.
وهناك أيضاً مجموعة كبيرة من القضايا الأخرى التي تعد إيران فيها بالغة الأهمية، سواء دعمها لحرب روسيا في أوكرانيا، أو الإرهاب، أو الأمن السيبراني، أو أمن الطاقة، أو التضليل الإعلامي، ولهذا لا تعد إيران مجرد مصدر قلق في مجال منع الانتشار النووي، بل يمتد تأثيرها السلبي للأمن القومي الأميركي إلى أبعد من ذلك بكثير.
مخاوف المستقبل
وفي وقت يبدو فيه التوصل إلى اتفاق موقت توافق فيه إيران على التراجع عن برنامجها النووي قليلاً مقابل تخفيف بسيط للعقوبات أمراً محتملاً قد يرحب به الرئيس ترمب لأن الاتفاق الشامل يمثل عبئاً سياسياً ثقيلاً للغاية في كل من طهران وواشنطن، لا تزال المخاوف قائمة في ما يتعلق بمستقبل العلاقة بين خصمين ظلا لدودين على مدى أكثر من 45 عاماً في ظل انعدام الثقة بينهما، التي جسدتها مواقف متعددة.
وعلى سبيل المثال، حينما غزت أميركا العراق عام 2003 كان بإمكان الأميركيين نقل هجومهم وتغيير سياستهم شرقاً نحو طهران، لكن ما فعلته إيران هو أنها احتجزت مجموعة من سجناء “القاعدة” على أراضيها، ثم أطلقت سراح مقاتلي “القاعدة” في العراق كحقيبة مليئة بالأفاعي.
وعندما بدأ عناصر “القاعدة” بتحويل حياة الولايات المتحدة إلى جحيم، سرعان ما اتضح أن جهود أميركا في العراق تتجه نحو الانهيار، عندها بدأت إيران فعلياً في تصعيد هجماتها على القوات الأميركية عبر تزويد عناصر “القاعدة” بالعبوات الناسفة التي قتلت ما يصل إلى 1000 جندي أميركي في العراق.
حدث ذلك بعد عام أو عامين من الحرب، عندما اتضح أن الرئيس جورج دبليو بوش لم يعد يتمتع بتفويض شعبي لمهاجمة إيران، ووفقاً للخبير في مؤسسة كارنيغي كريم سجادبور، فإن هذه هي الطريقة التي يتعامل بها النظام الإيراني حالياً مع إدارة ترمب، حيث لا يحاول الإيرانيون الاستفزاز ويسعون إلى تهدئة الموقف، لكن بمجرد أن ينشغل ترمب بقضايا أخرى ويضعف داخلياً، ويفقد تفويضه، ويفقد شعبيته، ويفقد عزيمته، عندها سيبدأ الإيرانيون بتصعيد هجماتهم.