منذ أن استرجع المغرب صحراءه من المستعمر الإسباني عام 1975، بواسطة المسيرة الخضراء السلمية، وإعلان جبهة البوليساريو الانفصالية عام 1976 تأسيس ما تسمى “الجمهورية الصحراوية” من جانب واحد، بدعم من الجزائر وليبيا انذاك، أصبحت أولوية الديبلوماسية الجزائرية العمل على فصل الصحراء عن المغرب.
حينما أسمع المسؤولين الجزائريين الكبار يرددون بإصرار التزام بلادهم مبادئها “الثابتة”، القائمة على حسن الجوار، واحترام سيادة الدول ووحدتها، ورفض التدخل في شؤونها الداخلية، وتفضيل المقاربات السلمية المبنية على الحوار في حل الأزمات، أتساءل: عن أي حسن جوار، وأي احترام لسيادة الدول ووحدتها يتحدثون؟
مناسبة ترديد هذا الكلام، وهو ليس بجديد، كانت الأحد الماضي خلال ملتقى نُظِّم في العاصمة الجزائرية بعنوان: “الساحل الإفريقي: التحديات الأمنية والتنموية في ظل التجاذبات الجيوسياسية في المنطقة”. ومُردِّده ليس سوى الفريق أول السعيد شنقريحة، الوزير الجزائري المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي.
حتى وقت قريب، كان من الممكن تقبّل مثل هذا الكلام، رغم إصرار الجزائر على مناكفة المغرب، والمسّ بسيادته ووحدة ترابه الوطني منذ قرابة خمسة عقود. أما اليوم، وقد أصبحت علاقاتها تشهد قطيعة وتوتراً غير مسبوقين مع دول الساحل الإفريقي، فقد بات تكرار هذه العبارات تعبيراً عن حالة انفصام متقدمة تعاني منها الديبلوماسية الجزائرية.
منذ أن استرجع المغرب صحراءه من المستعمر الإسباني عام 1975، بواسطة المسيرة الخضراء السلمية، وإعلان جبهة البوليساريو الانفصالية عام 1976 تأسيس ما تسمى “الجمهورية الصحراوية” من جانب واحد، بدعم من الجزائر وليبيا انذاك، أصبحت أولوية الديبلوماسية الجزائرية العمل على فصل الصحراء عن المغرب.
بل أن الجزائر آثرت الإنفاق بسخاء على حرب استنزاف ضد المغرب في الصحراء، بدل الانخراط في تنمية البلاد ورفاهية شعبها. وبعد مرور خمسة عقود، لا تخطىء العين حالة التردي الاقتصادي والاجتماعي التي تعاني منها الجزائر.
فماذا يمكن أن نُسمي استضافة الجزائر ميليشيات مسلحة على أراضيها، هدفها الأول والأخير زعزعة استقرار المغرب؟
وأين هو “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، وهي عبارات يزدان بها القاموس الديبلوماسي الجزائري؟
يرى كثيرون من المراقبين أن ملتقى “الساحل الإفريقي” كشف عن تناقضات عديدة في السياسة الجزائرية التي تملك القدرة على التصعيد مع جيرانها في منطقة الساحل، وفي الوقت ذاته تحاول أن تُظهر نفسها عرّاباً إقليمياً حريصاً على استتباب الأمن والاستقرار فيها.
ويُعتقد على نطاق واسع أن هذا الملتقى لم يكن سوى “مونولوغ داخلي” موجه للاستهلاك المحلي، هدفه التخفيف من وطأة العزلة التي تطوّق الجزائر جراء توتر علاقاتها بمحيطها الإقليمي والدولي، وخصوصاً مع فرنسا والإمارات العربية المتحدة.
ولعلّ المضحك المبكي في هذا السياق، هو إصرار الفريق أول شنقريحة على القول إن الجزائر كانت ولا تزال عنصر أمن واستقرار في المنطقة، بل ذهب إلى حد اعتبار ما يحصل من حولها مجرد “تشويش” على دورها المحوري في الساحل، مؤكِّداً أن بلاده، على رغم ذلك، ستظل رقماً فاعلاً في معادلة الأمن والسلام، وستواصل بذل ما في وسعها لإرساء أسس الحوار وبعث مقاربات إقليمية بنّاءة من أجل تكريس الأمن والاستقرار.
ينسى الفريق أول شنقريحة أن الأمن والسلام لا يتجزآن، وليسا حلالاً على منطقة الساحل وحراماً على المغرب وصحرائه.
أما وزير الخارجية أحمد عطاف، فقد أدلى بدلوه في الملتقى من خلال مداخلة بعنوان: “تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في منطقة الساحل الإفريقي: أي استراتيجية ناجعة؟”، وقال إن بلاده تمتلك “مخزوناً من الصبر لا يُستهان به”، وإن لها من الحكمة والتبصر ما يمكّنها من التعامل مع المعضلات الطاغية على المشهد في الساحل الإفريقي، مضيفاً أن للجزائر إيماناً عميقاً بوحدة الإرث التاريخي، ووحدة التطلعات، ووحدة المصير أيضاً، ما يدفعها دوماً إلى مد يد التضامن والتآزر والإخاء إلى أشقائها في الجوار.
لذا، ليس أمام الجزائر الآن سوى السعي الجاد إلى إعادة بناء الثقة، وتعزيز الحوار مع جميع جيرانها، حفاظاً على الاستقرار الإقليمي؛ لا قولاً فحسب، بل فعلاً أيضاً.فالكلام وحده يذوب عند النطق به، كما يذوب زبد البحر ويذهب جفاءً.