لا شيء يخيّب القارئ أكثر من كتابٍ سمع عنه مديحاً كبيراً، ثمّ وجده خلافَ ما قيل له. ولو أحصينا الكتب ذات الصّيت الكبير، وهي في الواقع أقلّ جودةً ممّا يشاع عنها، لدُهشنا من كثرتها، ومن اعتبار كتّابها قمماً شاهقةً في الأدب، بينما هم تلال وروابٍ، مثل معظم ساكنة بلاد الكتابة. فالقمم قليلة، وقليل من يصعدها، رغم كثرة الراغبين والحالمين بذلك.
في هذه المتاهة التي تفتحها التقييمات، والقراءات، يجد القارئ نفسه يقف أمام حقيقة أن كثيراً من الأدب المسلّم به ليس سوى إشاعات. وكلّ عودة له إلى قراءة ما قرأه منذ أكثر من عشرين سنة، إبّان نشر الأعمال التي صارت من كلاسيكيات الأدب العربي في أوج انتشارها، تشوبها خيبة أمل كبيرة. لكنّها عودة اضطرارية، ولا مفرّ منها، فما يقرأه الإنسان وهو طفل، أو على أبواب الصبا، لا يمكنه التقرير بشأنه بعد عقودٍ من القراءة ومن الكتب الجديدة. ولتحديث انطباعاته لا بدّ من تحديث نظرته إلى هذه الكتب التي لا يتوقّف بعضهم عن تمجيدها وتخليدها، وبالتالي يصبح رأي المرء ضرورياً لمناقشة هذا التقديس.
ورغم الجزم بتدخّل الأذواق في هذه الاختيارات، لكنّ بعض الأمور لا يغطّيها هذا العُذر. فيكتشف القارئ أن بعض أشهر الروايات مجرّد بالونات كبيرة، وأنّ رواياتٍ كثيرةً صدرت بعدها تفوّقت عليها، فنسفَت وجودها بعد مرور الزمن، خصوصاً أن الرواية العربية عرفت تطوّراً كبيراً في العقود الماضية. من جهة أخرى، ورغم تعاقب التجارب الأدبية، تنجو روايات قوية مهما قسا غربال السنين، وتظلّ في المقدّمة، وأكثرها أهميةً “المتشائل”، التي (في نظري) هي أكثر رواية تستجيب لروح الحداثة في الروايات العربية المشهورة.
لكن لماذا ظلّت كتب متواضعة محلّ تقدير كبير، واعتقاد راسخ بأنها علامات فارقة، بينما يمكن أن نأخذ روايات شباب، ونجدها أفضل من ناحية الحكاية والتقنية والبناء وأسلوب الكتابة والعمق النفسي؟ ولعلّ هذه الكتب/الإشاعات هي التي مهّدت لشائعة أخرى، هي أن الروايات العربية ليست جيّدةً بما يكفي، وأن العرب لا يكتبون روايات تستحقّ القراءة. هذا الكلام تسمعه كثيراً في لقاءات الكتّاب، فتدفع الرواية العربية (بالتعريف) ثمن ضآلة بعض الروايات التي عثر عليها هؤلاء، ومعظمها من أصدقاء أو معارف. وكأنّ الأدب العالمي الذي يستدلّ به هؤلاء لا يحمل هذا النوع من الروايات المهلهلة.
هناك كتب قد تمشي على النار حافية القدمَين ولن تحترق، وكتب قد تُلبَّس كعوباً عالية، ولن تعلو أو تنجو. يمكن أن نعثر على أعمال جيّدة من بين عشرات المحاولات الروائية، في كلّ منطقة. ولعلّ بعض الترجمات لروايات اشتهرت أخيراً، في الغرب أو في شرق آسيا، تدلّنا على أنّ داء الرداءة لا يتوقّف عند أرض دون أخرى. فحكاية بسيطة تضمّ عنصراً خارج التناول العادي، كالجنس أو السياسة أو الدين أو الحريات الفردية أو المجتمعات الأبوية، كفيلة بمنح رواية عادية تقديراً غير مُستحَق.
في هذا السياق، لا يمكن ذكر روايات الموتى التي بولغ في تقديرها، إذا لم نُشر إلى روايات الأحياء منهم. ولتفادي الحرج، وبدل الإشارة إلى بعض الأعمال المتوسّطة أو الضعيفة المُقدَّرة فوق حجمها، هناك روايات جيّدة، لكن لا يمكن عدّها ضمن الأفضل، ولا ذنب لأصحابها في هذا الوضع. مثلما لا يمكن القول إنّ “الخبز الحافي” أفضل الروايات المغربية، بل أستطيع، من دون تردّد، ذكر عدد مهم من الروايات أفضل منها بمراحل. رغم أن الأفضل مسألة نسبية، لكن هناك مجموعة من المعايير تحكم معظم ما نقرأه. سيرى بعضهم هذا الرأي قاسياً، لكن أليس اختيار مجموعة أعمال وكتّاب ليكونوا في المقدّمة اختيار قاسٍ على البقية؟… هذا سيعني أنهم جميعاً في الدرجة الثانية، في أحسن حال، فطالما لم يُكرَّسوا في النُّخبة، فهم بحكم الأمر الواقع ضمن رعاع الأدب. ومن الذي يريد أن يكون ضمنهم؟
لذا، تبدو المقدّمة مثيرةً للمشكلات عندما لا تُستحقّ بكلّ المعايير، وأهمها الزمن.