الوضع الذي يمرّ به “الحزب” في لبنان (إلى جانب حركة “حماس” في غزّة)، من بين أركان “محور المقاومة” السابق، غير مألوف بتاتاً. استراتيجيّاً، رجع “الحزب” الذي كان محور المحور ومركز الثقل فيه، أربعة عقود إلى الوراء، أو أكثر، إلى زمن الفتوّة، والتأسيس الأوّل، لكن بذاكرة الشيوخ وكأنّ زلزالاً لم يقع.
يخطئ خصوم “الحزب” إن ظنّوا أنّه انتهى بما هو جسم سياسي وتنظيمي، وحان وقت توزيع التّرِكة على الورثة المفترضين، بدليل ما أفرزته صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية والاختيارية. ويخطئ “الحزب” إن ظنّ أنّ بمقدوره استئناف المسيرة مذ توقّفت رسميّاً الحرب الإسرائيلية على لبنان في 27 تشرين الثاني الماضي، أو من حيث انطلقت تلك المسيرة قبل 43 عاماً عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، حين اجتمع ثلّة من الشباب الشيعي المؤمن، لإنشاء أحد أكبر الأحزاب وأقواها، وهو “الحزب”.
إنّها لحظة تاريخية لافتة، فالتاريخ يأبى أن يغادرنا، والمستقبل يتلكّأ في الوصول، فلا نعرف في أيّ مرحلة نحن، ولا “الحزب” يعرف أيضاً. وما بين اللحظتين، فترة انتقالية غامضة، واستنساخ لسياسات ومواقف وأفكار كان لها أَلَق في زمانها، وتأثير كبير في الواقع السياسي والميداني ولم تعُد كذلك، بعدما تجاوزتها موجة مدمّرة من التقنيّات المتقدّمة.
لا عودة إلى الاستاتيكو السّابق
“الحزب” في لبنان كما “حماس” في غزّة، يظنّان أو يتصرّفان، وكأنّهما خرجا للتوّ من جولة جديدة من جولات القتال الاعتيادية، وأنّ التدخّل الإقليمي والدولي قادر على لجم إسرائيل، والعودة إلى “الاستاتيكو” السابق، استعداداً لجولة جديدة معها، بعد وقت طويل أو قصير. لكنّ “إسرائيل نتنياهو” لم تعُد كما كانت، ولم تعُد الولايات المتّحدة راعيتها الأولى في العالم قادرة على احتوائها، ولا حتّى ترامب نفسه.
يخطئ خصوم “الحزب” إن ظنّوا أنّه انتهى بما هو جسم سياسي وتنظيمي
ليس “طوفان الأقصى” هو المتغيّر الجديد الوحيد الذي فجّر كلّ القواعد والمعادلات ، بل الردّ الإسرائيلي الشامل أيضاً، بوحشيّته التي لا حدود لها. وهذا التغيير الكبير في المنطقة، كما يسمّيه بنيامين نتنياهو، يضرب كلّ شيء حتّى إسرائيل نفسها، حتى إنّ بقيّة عقلائها من عُتاة مجرميها السابقين، باتوا يستشعرون الخطر على الدولة اليهودية أكثر فأكثر. ولو توقّفت الحرب الإسرائيلية الآن، فلن تتوقّف الارتدادات في الداخل الصهيوني، ولسنوات طويلة.
استنساخ ما بعد تمّوز 2006
في الداخل، وبقيادة الأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم، إلى جانب من بقي من رفاقه المؤسّسين، يتلمّس “الحزب” خطوات العودة إلى المسار، بعدما خرج القطار عن السكّة في الحرب الأخيرة. عسكريّاً، لم يعد للصواريخ أو معادلة الردع أيّ مكان. وأيّ محاولة لترميم القوّة الناريّة ولو على مستويات منخفضة لمجابهة هجوم برّي مثلاً، لا لإطلاق صواريخ كالعادة، تجابهها إسرائيل بالقوّة الفوريّة، وكأن لا وجود لاتّفاق يوقف الأعمال العدائية.
الحزب
سياسيّاً، يتعامل “الحزب” مع أركان الدولة اللبنانية كما ينصّ اتّفاق الطائف. فالحكومة مجتمعةً هي التي تملك القرار السياسي، والانتقاد يُوجّه إلى رئيسها نوّاف سلام، بوصفه الممثّل الرسمي للسلطة التنفيذية، التي هي الحكومة. وصرخات الجمهور المؤيّد لـ”الحزب” في المدينة الرياضية خلال مباراة كرة القدم بين النجمة والأنصار، التي تضمّنت اتّهام رئيس الحكومة بالعمالة لإسرائيل، تشبه صرخات المعتصمين في ساحة رياض الصلح عقب حرب تمّوز 2006، التي كالت الاتّهامات نفسها لرئيس الحكومة آنذاك، فؤاد السنيورة. لكن لا الرئيس جوزف عون هو الرئيس إميل لحّود، ولا نوّاف سلام هو فؤاد السنيورة، وإن بدا من وشائج وتشابهات بين الرجلين.
“الحزب” في لبنان كما “حماس” في غزّة، يظنّان أو يتصرّفان، وكأنّهما خرجا للتوّ من جولة جديدة من جولات القتال الاعتيادية
ثمّة تكرار لمواقف وأفكار، في حين أنّ الوقت هو للاعتبار والابتكار. وحتّى بعد ما كلّ الذي جرى، وهو هائل بآثاره، لم نسمع بعد سياسة حقيقيّة، بل شظايا أيديولوجية برائحة البارود والغبار. فيما المطلوب أكثر من ذلك بكثير، وهو ليس أقلّ من صياغة استراتيجية جديدة لمرحلة جديدة تماماً، تغيب فيها العناصر الأساسية لمحور المقاومة، لا سيما سوريا “المحور الجيوسياسي” لذلك المحور.
أمّا الاستراتيجية السياسية لـ”الحزب” في هذه المرحلة القاتمة، فهي تقوم على ركنين: الأوّل، تحميل الحكومة مسؤوليّة التحرير والتعمير بعد الحرب. والثاني، التمسّك بدور المقاومة وسلاحها (ما بقي منه لحرب العصابات)، بعد البرهنة على أنّ الدولة وحدها غير قادرة على حماية لبنان، فحتّى الجيش اللبناني نفسه ممنوعٌ حصوله على أسلحة متطوّرة، وأن لا غنى عن المقاومة بأيّ حال.
لدى “الحزب” رفض مطلق لمقولة معاكسة، وهي أنّ تسليم السلاح والتحوّل إلى حزب سياسي سيجلب الاستثمارات والمساعدات إلى لبنان، بل سيفرض على إسرائيل الانسحاب من النقاط الاستراتيجيّة التي تحتلّها في الجنوب، وأنّ هذا وحده سيُلزمها باحترام سيادة البلاد، والتخلّي عن أراضٍ لبنانية تحتلّها قديماً، وأخرى احتلّتها حديثاً.
سياسيّاً، يتعامل “الحزب” مع أركان الدولة اللبنانية كما ينصّ اتّفاق الطائف
نظريّتان غير صالحتين
موضوعيّاً، كلتا النظريّتين لم تعودا صالحتين كما هما. فلا المقاومة قادرة على استئناف سيرتها الأولى، وكأنّها في ربيع الحياة، وزخم الحماسة، ولا الدولة قادرة على فرض شروطها على إسرائيل الآن، بعد الأحداث المفصليّة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023. وحتّى لو سلّم “الحزب” مخازن السلاح الفرديّ، فستُخرج إسرائيل من جعبتها شروطاً أخرى. فالزمان زمانها، ولن تُضيع فرصة النصر النهائي إن لاحت لها. هذا ما تفعله في فلسطين، وفي سوريا، وهو أيضاً ما تفعله في لبنان، وستحاول فعله مع مصر.
إقرأ أيضاً: الشّيعة أمام الامتحان: السّلاح ليس ضمانة
باختصار، هو فرض الهيمنة الاستراتيجيّة على البلدان المجاورة لها، تحت عنوان: منع 7 أكتوبر جديد. هذه هي العقدة التي ستحكم سياسات إسرائيل لوقت طويل. حتّى “اتّفاقات أبراهام”، أو مشروع التطبيع بين إسرائيل والدول العربية لم يعد متوقَّعاً له أن يكون كما كان قبل الحرب الأخيرة. سيكون التطبيع لو حدث، من طبيعة مختلفة تماماً. وكأنّه تسليم فقط بتفوّق إسرائيل واستسلام لها. “طوفان الأقصى” أفقد الأشياء طعمها الحقيقي. وهذا هو إنجازه الوحيد حتّى الآن.