بعد الخامس من حزيران 1967، تاريخ الهزيمة الكبرى التي لم يُخفّف من آثارها الفادحة وصفها بالنكسة، نشأ مناخٌ مؤاتٍ لانطلاقة ثانية للثورة الفلسطينية، على عكس ما كان الأمر عليه في الانطلاقة الأولى.
بفعل الهزيمة وما أحدثته من آثارٍ نفسيّة على مستوى العالم العربي كلّه، جرى احتفاءٌ شاملٌ بحمَلة البنادق. وكان أوّل وأهمّ المحتفلين زعيم الأمّة جمال عبدالناصر، الذي زكّى الثوّار معتبراً إيّاهم أنبل ظاهرةٍ أنجبتها الأمّة، وأعلن التزامه بهم في جملة خالدة “ولدت لتبقى”.
انهمر الدعم بكلّ أشكاله على حمَلة السلاح، الذين تجمّعوا على الساحتين الأردنية والسورية، حتّى ضاقت بهم المدن والقرى، التي استقبلت طوفاناً بشريّاً من المتطوّعين، كان فوق طاقة القيادات والإطارات على استيعابه، فنتجت حالةٌ من فوضى مسلّحة اجتاحت الدولة الأردنيّة. أمّا امتدادها السوري فكان مسيطَراً عليه بالمشاركة والاحتواء، ذلك أنّ الحزب الحاكم قرّر إنتاج منظّمة مسلّحة سمّاها طلائع حرب التحرير الشعبية “قوّات الصاعقة”، وأمّا توأمه في العراق فأنتج منظّمة مماثلة، لتكونا بمنزلة الشريك القتالي والسياسي إلى حين نضوج الإمكانات المؤاتية للسيطرة على الثورة وقرارها السياسي.
حسم الفوضى في الأردن
حُسم أمر الفوضى المسلّحة على الساحة الأردنية بحربٍ شرسة، بعدما وقفت المملكة على حافة حربٍ أهليّة هدّدت الدولة ونظامها السياسي. وبعد خسائر فادحة دفعها الجانبان، لجأ مقاتلو الثورة وقادتهم السياسيون إلى سوريا، ومنها إلى لبنان.
بحكم الرعاية الناصريّة للظاهرة التي وُلدت لتبقى، انتشر الوجود الفلسطيني المسلّح على جميع الجغرافيا اللبنانية، جنوباً وشمالاً ووسطاً، ليس في المخيّمات المقامة منذ بدايات النكبة واللجوء فقط، بل وفي المدن والقرى. كان وجوداً مسلّحاً أغرى بنفوذٍ فوق نفوذ الدولة، وبتغيير في التركيبة الطائفية والاجتماعية، فنشأت حربٌ داخليّةٌ طويلة الأمد… حربٌ مركّبة، فلسطينية لبنانية عربية دولية.
عادت المخيّمات في لبنان لتمتلئ من جديد بسلاح لم يكن كلّه فلسطينيّاً فصائليّاً تقليديّاً
أمّا إسرائيل فكانت متوغّلةً فيها عبر تدخّلاتٍ مباشرةٍ من خلال طائراتها، وباجتياحاتٍ واحتلالات انتقائية وفق ما يلزم أجنداتها، وخصوصاً على الجبهة الشمالية.
أُخرِجت الثورة الفلسطينية من آخر جغرافيا لصيقةٍ بإسرائيل، وبقيت وراءها مخيّمات إن تجرّدت من السلاح بفعل الحرب التي أخرجت الثورة من لبنان، كانت استعادته ممكنة، وهذا ما حدث فعلاً. ولذلك قصص ليس وقتها الآن.
لبنان
كان الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان مبرَّراً بشعارٍ ذي بعدٍ قوميٍّ ووطنيٍّ وإنسانيّ هو إنقاذ الشعب الفلسطيني من الاحتلال من خلال الثورة التي وُجدت لتبقى، على رأي عبدالناصر، وأضاف عرفات: ولتنتصر.
كان السّلاح محميّاً
كان السلاح الكثيف محميّاً أو مبرّراً بشعار أنّ لبنان “ممرٌّ وليس مستقرّاً”، ومحميّ بتبنّي قسمٍ وازنٍ من اللبنانيين له، وانخراطهم في تشكيلاته، حتّى ترتيب الأجندات الداخلية بالاعتماد عليه.
غير أنّ كلّ ذلك فُقِد دفعةً واحدة، وانتهى بانتهاء دولة عرفات المسلّحة في لبنان واختيارها الطوعي أو القسري للمسار السياسي، وإغلاق المسار العسكري باتّفاقات وتفاهمات أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية على بعض أرضها.
عادت المخيّمات في لبنان لتمتلئ من جديد بسلاح لم يكن كلّه فلسطينيّاً فصائليّاً تقليديّاً، ولا تسليح تبرّره الأدبيّات التقليدية للثورة والفصائل وحلفائها، بل دخلت عليه ميليشيات ذات انتماءات متعدّدة، حوّلت الحياة في المخيّمات إلى جحيم، عبر سلسلةٍ من الاقتتالات على النفوذ لا صلة لها بكلّ الشعارات التي برّرت حمل السلاح في زمن عرفات.
سؤال الساعة، بعد المبادرة التي قام بها الرئيس محمود عبّاس في زيارته الأخيرة لبيروت وتسليمه مفاتيح المخيّمات وسلاحها للدولة اللبنانية، هو: هل ينجح هذا التوجّه الفلسطيني المتّفق عليه مع الدولة اللبنانية كي نرى وئاماً شاملاً يعيش الفلسطينيون في ظلّه وتحت حمايته؟ أم أنّ الأمر لن يكون ميكانيكيّاً وسهلاً إلى هذا الحدّ؟
كان السلاح الكثيف محميّاً أو مبرّراً بشعار أنّ لبنان “ممرٌّ وليس مستقرّاً”، ومحميّ بتبنّي قسمٍ وازنٍ من اللبنانيين له
تتطلّب الحاجة الفلسطينية إنجاح التوجّه ومراعاة المصلحة اللبنانية. وليس المقصود هنا النظام ومؤسّساته فقط، بل والشعب اللبناني المثخن بالجراح يحتاج إلى ذلك، وحتّى الإقليم المضطرب الذي تلتهمه الحروب بكلّ أشكالها وها هو يخسرها الواحدة تلو الأخرى، يحتاج إلى ذلك. فهل نرى انتصاراً للاحتياجات الحقيقية على الاحتياجات المريبة لمن لا يريدون رؤية لبنان معافى، بل يريدونه كما كان ساحة خلفيّة أو أمامية لأجنداتهم؟
ينبغي أن لا يكون هذا السؤال صعباً، وأن يكون الجواب عنه منطقيّاً وحيداً لا جواب غيره: إن ضلّ السلاح طريقه فينبغي أن لا يضلّ الخلاص مساره، وهو حتميّة تعافي لبنان، وساعتها يكون رصيداً ثميناً للجميع.