صار واضحاً أنّ الاتّفاق الأميركي – الإسرائيلي على منع إيران من امتلاك سلاح نووي لم يترجم اتّفاقاً في الخيارات المتاحة لتحقيق هذا الهدف. يفضّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخيار الدبلوماسي الذي انطلق في نيسان الماضي متسبّباً بامتعاض إسرائيلي، حين كان بنيامين نتنياهو يستعدّ للخيار العسكري الذي قيل إنّه تمّ الاتّفاق على تنفيذه ضدّ المنشآت النووية الإيرانية في شهر أيّار الحالي.
يتناول الخلاف الأميركي – الإسرائيلي أيضاً جوهر المفاوضات، فتل أبيب تطالب بتفكيك البرنامج النووي الإيراني على غرار “النموذج الليبي”، بينما يتعامل الجانب الأميركي مع هذه المسألة بطريقة تكرّس التفاوض حول حقّ إيران بتخصيب اليورانيوم على أراضيها. وعليه، يتفاوض مع الجانب الإيراني على نسبة تخصيب لا تتجاوز 3.76% حسبما سُمح له بموجب الاتّفاق النووي لسنة 2015، المعروف بـ”JCPOA”. يتناول الخلاف أيضاً التنازلات التي قدّمها ترامب لطهران مع عدم إدراجه برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية وملفّ وكلائها في المنطقة ضمن المفاوضات.
على الرغم من التباين الكبير بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو التي لا تزال تراهن على فشل المفاوضات، يعتقد الإسرائيليون أنّ نتائج المسار الدبلوماسي ستكون محكومة بمهلة محددة، وستقرّب ساعة الحسم بين خيار التسوية السياسية للبرنامج النووي الإيراني أو خيار الضربة العسكرية الأميركية – الإسرائيلية المشتركة. فكيف ينظر معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل إلى هذه التحدّيات؟ وما هي السيناريوهات المطروحة لديه لمنع إيران من امتلاك سلاح نوويّ ومواجهة معضلات الاتّفاق السياسي أو الخيارات العسكرية؟
الموقف الرسمي الإسرائيلي غير مقتنع بالمسار السياسي ويراهن على فشل المفاوضات ويستعدّ للخيار العسكري عندما تحين الفرصة
استراتيجية إسرائيليّة مركّبة
يبدو أنّ الإسرائيليين لم يستسلموا أمام إضعاف تأثيرهم في مسار السياسة الخارجية لترامب والمفاوضات الجارية مع الإيرانيين. وفي هذا الإطار، نشر معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل دراسة للباحثَين تامير هايمن وراز تسيمت بعنوان “بين تسوية نووية وهجوم عسكري على إيران – نحو لحظة الحسم”، تضمّنت تصوّراً استراتيجيّاً كاملاً للتعامل مع الهدف الاستراتيجي المتمثّل في منع إيران من امتلاك سلاح نووي.
ركّزت الدراسة على استراتيجية مركّبة تتيح “استخدام القوّة العسكرية (سواء بالتهديد أو بالفعل) من أجل دفع إيران إلى توقيع اتّفاق يمنعها من تطوير سلاح نووي، مع الحفاظ على قدرة المجتمع الدولي وإسرائيل على مواصلة الحملة الشاملة ضدّ إيران، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، التي من شأنها أن تُضعف النظام الإسلامي وتُقيّد نشاطاته الإقليمية الضارّة وتحدّ من قدراته الصاروخية”. وركّزت أيضاً على اتّباع ثلاثة مسارات عمل، يدمج كلٌّ منها عناصر تشمل الدبلوماسية والقوّة العسكرية والضغط على النظام، وهي:
– مسار يرتكز على تسوية سياسية.
– مسار يرتكز على الخيار العسكري (سواء أكان ذلك من خلال عمليّة عسكرية إسرائيلية أو عمليّة تقودها الولايات المتّحدة).
– مسار مركّب: ضربة تحذيرية بهدف الوصول إلى اتّفاق.
تغيير النّظام الإيرانيّ هدف إسرائيليّ
تحتاج التسوية السياسية مع إيران في نظر الباحثَين هايمن وتسيمت إلى تهديد عسكري موثوق به يركّز على البرنامج النووي وعلى بقاء النظام نفسه. في رأيهما، يمكن تفعيل هذا التهديد “في ظلّ الفرص الحالية التي تشمل الدعم الأميركي لإسرائيل، وضُعف إيران، وإمكان تنفيذ ضربة من دون الخوف الجدّي من الانزلاق إلى حرب إقليمية لأسباب عديدة بينها زوال تهديد الردّ من طرف “الحزب”.
إسرائيل في مأزق الخيارات، إذ يتوجّس نتنياهو ومعه اليمين المتطرّف من أن يغلب المنطق التجاري عند ترامب في المفاوضات
يستنتج الباحثان أنّ التسوية السياسية مع إيران “قد تؤدّي، على الأقلّ في المدى القريب، إلى تعزيز النظام الإيراني بفضل الامتيازات الاقتصادية الكبيرة التي ستحصل عليها طهران في إطار أيّ اتّفاق مستقبلي. ستقوّي هذه الامتيازات إيران اقتصادياً وتعيد إدماجها في النظام العالمي، بما في ذلك مع دول الغرب. ومن المرجّح أن تستغلّ إيران هذه الموارد الاقتصادية أيضاً لتعزيز قدراتها العسكرية، وتوسيع نشاطاتها الإقليمية المثيرة للجدل، وإعادة تأهيل المحور الموالي لها، على الرغم من أنّ التغييرات التي طرأت في المنطقة خلال الأشهر الأخيرة تصعّب كثيراً جهود إعادة تأهيله”.
إسرائيل
في خلاصة بحثهما في مفاعيل التسوية ومعضلاتها اعتبرا أنّ النظام الإيراني لن يتراجع عن معتقداته الأيديولوجية، ولن يتخلّى عن طموحاته النووية وسياساته لتعزيز نفوذه الإقليمي. ولذا لا حلّ بنظرهما إلّا بتغيير النظام، علماً أنّهما اعترفا بأنّ تغيير النظام يعتمد على عوامل خارجة عن سيطرة إسرائيل، ويخضع لمسار لا يمكن التنبّؤ بوقت تفعيله.
معضلة الخيار العسكريّ
الموقف الرسمي الإسرائيلي غير مقتنع بالمسار السياسي ويراهن على فشل المفاوضات ويستعدّ للخيار العسكري عندما تحين الفرصة. تناولت الدراسة المشار إليها أعلاه بشكل واضح محدوديّة الخيار العسكري وأهمّية التنسيق مع واشنطن ومشاركتها على الأقلّ في مواجهة ردّ الفعل الإيراني تجاه إسرائيل عقب العمليّة.
طرحت الدراسة علامات استفهام في شأن فعّالية الخيار العسكري المحتمل وجدواه، ومنها:
1- تنطوي المقولة الشائعة “الحرب هي مملكة عدم اليقين” على قدر كبير من الصحّة. فإسرائيل قادرة على تنفيذ هجوم على إيران، ويمكنها التحرّك منفردة، على الرغم من أنّ هذا يتطلّب تنسيقاً مع الولايات المتّحدة، ومن المرجّح أيضاً أن تتمكّن، إلى حدّ كبير، من تحقيق الأهداف التكتيكية للعملية.
إسرائيل قادرة على تنفيذ هجوم على إيران، ويمكنها التحرّك منفردة
لكنّ من المرجّح أيضاً أن يؤدّي شنّ عملية عسكرية إلى تصعيد إقليمي، تكون عواقبه وتداعياته على إسرائيل والولايات المتّحدة والمنطقة غير معروفة مسبقاً. وإذا لم تنجح الضربة العسكرية، بسبب ثغرات استخبارية، أو إخفاقات وأعطال محتملة، قد تترك في يد إيران قدرات نووية مهمّة، وقد تؤدّي إلى نتائج خطِرة، من ضمنها وقوع جنود في الأسر.
2- إنّ فعّاليّة الضربة العسكرية، سواء أكانت إسرائيلية أو أميركية أو مشتركة، في تحقيق الهدف الاستراتيجي الأساسي المتمثّل في منع إيران من امتلاك سلاح نووي، ليست مضمونة سلفاً. وفي كلّ الأحوال، لا يمكن تدمير المعرفة والتكنولوجيا التي يملكها العلماء الإيرانيون، والتي ستتيح لهم إمكانات إعادة بناء البرنامج بعد الضربة العسكرية.
إنّ عملية بقيادة أميركية تُشكّل تهديداً نهائيّاً لإيران، وقد تُزعزع أيضاً استقرار النظام الإيراني. ومع ذلك، تشكّل حملة مكلفة، وقد تؤدّي إلى تصعيد غير مرغوب فيه، وخصوصاً من وجهة نظر الولايات المتّحدة، التي تتركّز أولويّاتها واهتماماتها على قضايا أُخرى حالياً، ولا سيما الشؤون الداخلية والمنافسة مع الصين.
3- إنّ ضربة عسكرية ضدّ إيران ستؤدّي إلى ردّ إيراني على إسرائيل، قد يتبع نمطاً مشابهاً، وربّما أكثر خطورةً ممّا ظهر في الهجومين الإيرانيَّين على إسرائيل في نيسان وتشرين الأول 2024. من المشكوك فيه أن يكون لدى إسرائيل، وبصورة خاصّة في حال تنفيذ ضربة منفردة من دون مشاركة أميركية، القدرة على إزالة تهديد الصواريخ بالكامل، نظراً إلى المساحة الشاسعة لإيران، وحجم مشروع الأنفاق الواسع الذي يُستخدم لتخزين الصواريخ في أنحاء البلد.
صار واضحاً أنّ الاتّفاق الأميركي – الإسرائيلي على منع إيران من امتلاك سلاح نووي لم يترجم اتّفاقاً في الخيارات المتاحة لتحقيق هذا الهدف
4- قد تؤدّي ضربة عسكرية (سواء أكانت إسرائيلية أو أميركية) إلى دفع القيادة الإيرانية إلى الاستنتاج أنّ الردع الفعّال الوحيد في المستقبل لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال امتلاك قدرة نووية، وبالتالي تشجيعها على المضيّ قدماً نحو تطوير سلاح نووي، أو أن تكون ذريعة لانسحابها من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT).
إقرأ أيضاً: شراكة إسرائيلية – هندية لمواجهة المثلّث السّنّيّ
في الخلاصة، إسرائيل في مأزق الخيارات، إذ يتوجّس نتنياهو ومعه اليمين المتطرّف من أن يغلب المنطق التجاري عند ترامب في المفاوضات، ويلتهم الجزرة التي يقدّمها خامنئي عبر وزير خارجيّته في التعاون الاقتصادي مع أميركا ويتوصّل إلى تسوية مع إيران تضعف “مكانة” إسرائيل وتفتح مساراً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بشروط ترامب لا بشروط نتنياهو.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية.