الحزب الديمقراطي، الذي كان يوماً صوتاً مهيمناً في الخطاب الوطني، يجد نفسه اليوم مشتّتاً، منقسماً، وغير قادر على صياغة استراتيجية موحّدة لمواجهة زخم ترامب. ومع سيطرة الأخير شبه الكاملة على الحزب الجمهوري وتأثيره المتزايد على الكونغرس، تبرز السلطة القضائية بصفتها المعقل الأخير القادر على التصدّي لطموحات ترامب وأجندته السياسية.
فشلت الاستراتيجيّات الديمقراطية التقليدية، من حملات إعلامية إلى محاولات استمالة الرأي العامّ، في كبح أجندة ترامب. يملك الحزب الجمهوري الأغلبيّة في مجلسَي النوّاب والشيوخ. وعزّزت قاعدة ترامب الشعبية المخلصة سيطرته على الحزب الجمهوري، الذي خفتت فيه أصوات المعارضة وأصبح أداةً لتنفيذ أجندته. لذا فقدَ الكونغرس الكثير من قوّته الرقابية. فكثير من النوّاب والشيوخ الجمهوريين يدعمون سياسات ترامب خوفاً من خسارة تأييد ناخبيهم، خصوصاً في مرحلة الانتخابات النصفية التي يستطيع فيها ترامب أن يؤثّر إلى حدّ كبير في من يفوز بالترشّح عن الحزب الجمهوري من خلال الدعم أو حجب التأييد.
في هذه الأجواء، تبرز المحاكم الفدرالية بصفتها ساحةً حاسمةً لتحدّي نفوذ ترامب. لكنّ المفارقة أنّ ترامب نفسه، خلال ولايته الأولى (2017-2021)، أعاد تشكيل القضاء بشكل عميق. فقد عيّن ثلاثة قضاة في المحكمة العليا، نيل غورساتش وبريت كافانو وإيمي كوني باريت، وأكثر من 230 قاضياً في المحاكم الدنيا، وفقاً لتقارير خدمة الأبحاث في الكونغرس. معظم هؤلاء القضاة يتبنّون توجّهات محافظة، وهو ما يثير تساؤلات عن قدرة القضاء على مواجهة سياساته.
يحمل مخاطرَ جسيمةً الاعتمادُ المفرط على القضاء بديلاً لمعارضة سياسية قويّة
المواجهات في المحاكم
في 2025، برزت المحاكم لاعباً محوريّاً في مواجهة أجندة ترامب. في شباط أصدرت إدارته أمراً تنفيذيّاً لتقييد الهجرة من دول معيّنة، لكنّ محكمة فدرالية في كاليفورنيا أوقفته مؤقّتاً لمخالفته المحتملة للدستور. وفي نيسان تحدّت محكمة استئناف في نيويورك أمراً تنفيذياً يقيّد تمويل المنظّمات غير الحكومية الداعمة للمهاجرين، مشيرة إلى تجاوز السلطة التنفيذية.
ترامب
كذلك، في أيّار 2025، أثارت دعوى قضائية في تكساس جدلاً واسعاً عندما أوقفت محكمة فدرالية سياسة إداريّة تهدف إلى إلغاء لوائح حماية البيئة من أجل شركات الطاقة، مستندة إلى انتهاكات إجرائية. وفي قضيّة أخرى، تنظر محكمة استئناف في واشنطن العاصمة في دعوى ضدّ أمر تنفيذي يوسّع سلطات الحكومة الفدرالية في مراقبة البيانات الشخصية عبر الإنترنت، وهو ما أثار مخاوف على الخصوصية وحرّيّة التعبير. تعكس هذه القضايا دور القضاء الحارس للدستور في مواجهة سياسات تنفيذية مثيرة للجدل.
في ما خصّ سياسة ترامب المتعلّقة برفع التعريفات الجمركية، فرضت المحكمة التجارية على الإدارة الأميركية التزام الحدود القانونية في طريقة فرض التعريفات، فجَرت تعديلات وتراجعت الإدارة عن بعض الخطوات المتسرّعة. كان التأثير القضائي تقنيّاً لا استراتيجيّاً، لكنّه ساهم في خلق نوع من التوازن بين السلطة التنفيذية والمساءلة القانونية.
مخاطر جسيمة
يحمل مخاطرَ جسيمةً الاعتمادُ المفرط على القضاء بديلاً لمعارضة سياسية قويّة. فالقضاء ليس مصمّماً ليكون درع الديمقراطية الأوّل، بل لتفسير القوانين والدستور. تحميله هذا العبء قد يسيّسه، فيهدّد شرعيّته وثقة الجمهور بحياده.
في 2025، برزت المحاكم لاعباً محوريّاً في مواجهة أجندة ترامب
كشف تقرير مركز “بيو” للأبحاث (2024) عن انقسام حادّ: 62% من الديمقراطيين يرون المحكمة العليا منحازة أيديولوجيّاً، بينما يثق بها 68% من الجمهوريين. تفاقم هذا الانقسام في كانون الثاني 2025، عندما اتّهم ديمقراطيون المحكمة بالتحيّز بعد قرارها رفض الطعن في قانون تمويل الحملات الانتخابية، فتعزّز نفوذ المانحين الكبار.
يلعب القضاء دوراً بارزاً في المواجهات بين ترامب وجامعة هارفرد. فقد برزت الجامعة معقلاً لمواجهة قانونية مع إدارة ترامب، التي حاولت منع الجامعة من تسجيل الطلّاب الأجانب وتجميد المنح الفدرالية المخصّصة لها، متّهمة إيّاها بـ”التحيّز اليساري” ودعم تظاهرات مؤيّدة لفلسطين وعدم انتهاج إجراءات للحدّ من المعاداة للسامية. ردّت هارفرد بدعوى قضائية، متّهمة الإدارة بـ”الانتقام السياسي” وانتهاك الحرّيّة الأكاديمية.
في 23 أيّار أصدرت قاضية فدراليّة أمر إيقاف مؤقّت، معلِّقة قرار الإدارة إلى حين بتّ القضيّة، مشيرة إلى مخاوف دستورية تتعلّق بحرّية التعبير والاستقلال الأكاديمي. هذه القضيّة، التي أثارت جدلاً واسعاً، تؤكّد دور القضاء في أن يكون حصناً أمام التدخّلات التنفيذية، لكنّها تُبرز أيضاً مخاطر تسييس المؤسّسات الأكاديمية في ظلّ الاستقطاب السياسي.
إقرأ أيضاً: ترامب بعد الخليج ليس كما قبله
في ظلّ انقسام الديمقراطيين وضعف الكونغرس، أصبح القضاء الملاذ الأخير لمواجهة طموحات ترامب. لكنّ هذا الدور ليس مستداماً ولا مثاليّاً. الديمقراطية الأميركية بحاجة إلى معارضة سياسية قويّة وموحّدة، وقضاء يحافظ على استقلاله وشرعيّته. من دون ذلك، قد يتوقّف مصير الأمّة على قرارات عدد قليل من القضاة، وهي حقيقة مقلقة لمستقبل النظام الديمقراطي كما أراده الآباء المؤسّسون.