من المألوف، بالطبع، قتل الصحافيين والمثقفين والكتّاب في مجتمعاتنا. لكن من غير المألوف انخراط هؤلاء في أنشطة اعتراض مدني، واختيارهم مداخل هي، في وقت واحد، قاعدية جداً وسياسية جداً.
ولا يسع المرء هنا إلا أن يتذكّر أسماء تفد من تقاليد أخرى، في عدادها فاكلاف هافل، المسرحي والشاعر التشيكي، التشيكوسلوفاكي يومها، الذي صودر جوازه في 1969 لأن كتاباته “مخرّبة”، ثم ساهم في تأسيس”ميثاق 77” الشهير لحقوق الانسان و”لجنة الدفاع عن المضطهَدين بغير حق”، قبل أن يساق، في 1979، الى السجن حيث قضى أربع سنوات، حتى اذا باشر النظام الشيوعي تصدعه، في 1989، أسس “المنتدى المدنيّ”.
وتستعيد الذاكرة المثقفين البولنديين جاسيك كورون وأدام ميشنيك. أولهما من أسس”لجنة الدفاع عن العمال” (كور)، وهندس التحالف النقابي – الكنسي قبل ان يغدو المستشار الرئيسي لحركة “التضامن”. والثاني، نزيل السجن لسنوات ست، شارك في تأسيس “كور” وصار أحد خبراء “التضامن” في”مفاوضات الطاولة المستديرة” بينها وبين الحكومة، عشية تسلم الأولى السلطة من الثانية.
يتذكر المرء ايضاً ابراهيم روغوفا، الكاتب وأستاذ الأدب الألباني الذي بنى أول حزب غير شيوعي في كوسوفو، واستنبط الفكرة الرمزية عن الشال يلف به عنقه ما دام عنق بلاده مطوّقاً بالنير الصربي.
بيد أن معظم هؤلاء تحولوا، في بلدانهم وقد تحررت، رؤساء أو قادة أو وزراء أو مثقفين يحظون بالتبني الشعبي الواسع ورعاية الوطن بأسره. أما سمير قصير، اللبناني، فقضى بالطريقة التي قضى فيها ليس لأنه أسوأ حظاً من المذكورين، بل لأن الوحشية التي تصدى لها أشد وحشية بالمعنى الحرفي للكلمة من تلك التي واجهتهم، وهي، في الوقت نفسه، أقل ثقة بالنفس. فهم، وعلى عكس ما كان سمير يكتب، ليسوا “نظاماً” أمنياً، إذ التعبير هذا يفترض انسجاماً وتناسقاً بين أطرافه، بل أقرب الى مجموعات أمنية متنافرة تافهة، تنمو على فراغها وتعيش زمنها يوماً بيوم كما تستأصل ضحاياها بحسابات يومية.
والحال ان الدور الثقافي في مواجهة سياسات القتل كان أحد العناصر الأبرز التي أسبغت الخصوصية على انتفاضة الاستقلال. وهنا، أي في الدور الذي لعبه سمير ورفاقه، يمكن البحث عن بعض مصادر التشبيه بأوكرانيا وجورجيا، وهو تشبيهٌ كرهه بعض الأضيق أفقاً ومعرفة ممن يصيبهم بالدوار إسم قرية تبعد كيلومترين عن قراهم.
وبالمعنى هذا يمكن ان تُكتب سيرة وعي حضر فيه الكوني الذي يحول دون الوطنية الموروثة، وطنيةِ العنفوان والسنديان، حضورَ العربي، الفلسطيني والسوري، بوصفه المدى الذي يحضن الوطنية اللبنانية حائلاً دون شوفينيتها أو عنصريتها. الا انها سيرة لا بد ان يتوّجها استقرار صاحبها عند الوطنية اللبنانية الديموقراطية والحديثة. وقد يقال بحق ان حساسية اقليمية ما أسست لدى سمير قصير النفور والقرف من سياسات “الرعاية الاقليمية” السورية حيال منظمة التحرير الفلسطينية. لكن المؤكد ان العقد ونصف العقد الأخيرين سجلا انزياحاً متعاظماً لمصلحة التعامل مع المسألة الوطنية اللبنانية بصفتها موضع التركيز ومصدر الأحكام. وما من شك، هنا، في أن العيش في الوطن، والاستجابة لتحديات مجتمع بعينه، يبلوران وعياً غير الذي ينشأ في المهاجر حيث يفتقر البحث عن”الحق” و”العدل” الى ما يرتكز اليه أو يتجسّم فيه.
وبالعودة الى ما كتبه سمير في السنوات الاخيرة، بكمّه ونوعه، والى فكرة العَلَم الذي أراده شالاً للمعارضين، فضلاً عن مقتله، يمكن الجزم بأن الموضوع هنا يكمن.
وقبل سمير كتب جاسيك كورون، الصادر أصلاً عن وعي ماركسي، يقول: “أكثر ما أرغب فيه هو ان أكون اشتراكياً ديموقراطياً في بلد رأسمالي عادي. لكن لأجل هذا، عليّ أن أبني هذا البلد الرأسمالي العادي أوّلاً…”.