ملخص
“استئجار الأشباح” عنوان رواية جديدة للشاعر والروائي السوري- الكردي سليم بركات، والأشباح هم كتّاب يتولون تأليف كتب وسير يطلبها منهم أشخاص هم بمثابة زبائن، لكن العلاقة بينهم والأشباح تتحول الى جرائم قتل.
لعل السؤال المركّب الذي يطرحه عنوان رواية “استئجار الأشباح” للروائي السوري سليم بركات (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، هو من هو المستأجِر (بكسر الجيم)؟ ومن هو المستأجَر (بفتحها)؟ وما الغاية من الاستئجار؟ أما الإجابة التي يقدمها المتن الروائي عن هذا السؤال، فتكمن في أن المستأجِر هو هايلون تورنا الرجل الثري الذي يرث مزرعة كبيرة عن أبيه وباخرتين ويهتم بزراعة الورد ويركّب تصاميم صغيرة للسفن تعرض في القصور ويمارس هواية الصيد ويقيم علاقات حسن جوار مع مالكي الدساكر القريبة من مزرعته، وأن المستأجَرين هم الرسام ميراكو والكتّاب “الأشباح” إيكولا وبوركا وروكاس وديسو.
و”الأشباح” نعت يطلق على الكتّاب الذين يقومون بكتابة سير المشاهير بناءً على طلبهم مقابل عائد مادي، وأن الغاية من استئجارهم هي رغبة المستأجِر في أن يكتبوا سيرته الذاتية، غير أن مجرى الأحداث يثبت أن هذه الغاية المعلنة لم تكُن هي الحقيقية، بل كانت ذريعة لغاية أخرى وغطاء لجرائم خطرة يرتكبها قتلة محترفون.
الرواية الجديدة (المؤسسة العربية)
تقع الأحداث، على المستوى المكاني، في مزرعة مترامية الأطراف، تحديداً في دارين فارهتين تعودان للأخوين هايلون وكورين، المختلفين في الميول والنزعات. فبينما يتحلى الأول بالحيوية ويهتم بالزراعة والصيد والفن ويتفاعل مع جيرانه، يميل الثاني إلى الكسل والشرود واللامبالاة، ويعكف في ثلة من أصحابه على الروحانيات، حتى إذا ما قام أحدهم بقراءة جديدة لقصة سندريلا، تشكل القراءة نقطة تحول في حياة أفراد الثلة، من الروحانيات إلى اللذة الحسية، فينغمسون في الممنوعات على أنواعها، وينقطعون عن الواقع، مما يترتب عليه نتائج وخيمة تقع على الأخ كورين وآخرين.
تجري الرواية، على المستوى الزماني، في 30 يوماً، تبدأ باستقبال يانتيل الرسام والكتاب الأربعة في محطة القطارات، وتنتهي بسقوط نصف ذراع آدمية مقطوعة نهشاً بأسنان حيوان مفترس، تعود للرسام، من براثن طيرين يتعاركان للاستئثار بها. وبين البداية والنهاية سلسلة من الوقائع الروائية، المتشابهة والمختلفة، تتعاقب وفق مسار أفقي، تتكرر فيها الأحداث المسرودة وتتشابه الحوارات المتبادلة.
مجرمون وضحايا
في سياق الوقائع المروية، تشكل يانتيل مع عمها هايلون وأمّها زوريا مجموعة من القتلة المحترفين، ترتكب جرائمها ببرودة أعصاب، من دون تمييز بين قريب وغريب، أو بين إنسان وحيوان. ويشكل الكتاب الأربعة والرسام مجموعة من الضحايا المغرّر بهم الذين يسقطون تباعاً في براثن المجموعة الأولى، ذلك أن هايلون العم الثري ينطوي على حقد دفين لا تعرف أسبابه على الكتاب الأشباح، ويضيق ذرعاً بالسير الذاتية، ويزدري من يستعينون بهم لكتابتها، وهو قد استدعى ثلاثة منهم تباعاً، بذريعة كتابة سيرته الذاتية، وقام بالتخلص منهم بمساعدة يانتال ابنة أخيه وأمها زوريا، وإذ لم تشفِ الجرائم الثلاث غليله، يخطط لارتكاب أخرى، فيستدعي الكتاب الأربعة والرسام معاً بذريعة معلنة، هي كتابة سيرته الذاتية ورسم مشاهد من عملية إملائها، غير أنه في قرارة نفسه كان يخطط للتخلص منهم بمشاركة شريكتيه يانتيل وزوريا.
رسمة لسليم بركات (المؤسسة العربية)
وفي إطار تنفيذ خطته، راح يعقد جلسات في الدارين، يتظاهر فيها بإملاء شذرات من سيرته عليهم، فتُفلت منه عبارات وجمل مفككة غير مترابطة، حتى إذا ما علّق أحدهم بجملة أو عبارة على كلامه أو خلال الحوارات في ما بينهم، راح يطلب ضمّها إلى السيرة المزمع كتابتها. وعليه، راحت الجلسات تتكرر والحوارات تتعاقب وتتناسل، حتى إذا ما أدرك الكتاب والرسام تباعاً عبثية المروي وعدم جدية صاحب السيرة، راحوا يغادرون في أوقات متباينة، غير أن المغادرة لم تكُن للمكان بل كانت للحياة برمّتها، فتقوم يانتيل بإغواء المغادر وإسكاره وتخديره بجرعات من الحشيش، وإذ يوشك على الدخول في غيبوبة، تقوم بخنقه بزنّارها بمساعدة عمها وأمها، ووضعه داخل إحدى المجلّدتين في قبو الدار. وهكذا، يُخنق روكاس وبوركا وديسو، وتغرق إيكولا في مسبح الدار، ويفترس حيوان ميراكو بعد تقييده في القبو بسلسلة حديدية.
مفارقات مختلفة
في “استئجار الأشباح”، نحن إزاء مجموعة من القتلة المحترفين، تتخذ من كتابة السيرة غطاءً لارتكاب جرائمها المتتالية، وإزاء مجموعة من الضحايا المغرّر بهم الذين لم يكتشفوا حقيقة الوضعية التي يقيمون فيها، ويدفعون ثمن جهلهم وسذاجتهم غالياً. والمفارقة أن الضحايا الذين يعرفون أكثر من القتلة لم تنفعهم معرفتهم في تجنب مصائرهم الفاجعة، بينما استطاع المجرمون الذين يقلّون عنهم معرفة أن يوقعوا بهم وينالوا منهم. ومع هذا، لست أدري ما الذي يريد سليم بركات قوله في روايته، فكأني به يروي لأجل الروي، وهو ممن يتقنون الروي ويملكون أدواته ويستخدمونه ببراعة واضحة، لكنه لا يصل إلى مكان ويدور في حلقة مفرغة.
وفي هذا السياق، تشكل الجلسات المتعاقبة والمتقطعة، خلال 30 يوماً، الأطر المستخدمة للحكي وتتشابه ضمنها الأحداث، ففي كل جلسة يبدأ هايلون بالحكي متظاهراً بأنه يملي عليهم سيرته، فيقول ولا يقول، ثم يدخل الجميع في الحكي، فيقولون ولا يقولون، وتكون النتيجة مخيبة للآمال. وليس ثمة موضوع معين لهذا الدخول الجماعي، فينتقل الحكي من موضوع إلى آخر، بسبب وبلا سبب، وتتحول الجلسة إلى إطار تتكرر فيه الأحداث وتتكرر الأحاديث في نوع من العبث اللفظي الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئاً، مما يفسّر امتداد الرواية على 630 صفحة، راح بركات يملأها بالحكي المعاد والمكرر وبالتفاصيل والجزئيات وبالمعلومات التي لا تسهم في نمو الأحداث.
“مباهج الانتحار” لسليم بركات متاهة يجتازها القارئ بمتعة
سليم بركات ينبش ذاكرة الحي اليهودي في القامشلي
والمفارقة أنه على رغم هذا العدد الكبير من الصفحات لم ينأَ عن الوقوع في حرق المراحل، فتنمو بعض الأحداث أسرع مما ينبغي، ولا يحتاج إلى أكثر من المسافة بين محطة القطارات والمزرعة ليتطارح الضيوف الغرباء الذين لم يسبق لأحدهم أن التقى الآخر الكلام ويُلغوا المسافات في ما بينهم، وكأن بينهم عشرة عمر، وفي هذا حرق للمراحل. في المقابل، راحت الأحداث تدور حول نفسها خلال الجلسات وكأنها تدور في حلقة مفرغة، على تعدد المواضيع التي تخوض فيها وانتقالها من موضوع إلى آخر، بصورة مرتجلة ومن دون سابق تخطيط. لكن المفارقات في الرواية لا تقتصر على الشكل بل تتعداه إلى المضمون، فلا يتورع القتلة عن قتل كورين، وهو شقيق هايلون ووالد يانتيل وزوج زوريا، لمجرد انغماسه في الملذات الحسية، وبذلك، يحرّمون عليه المتع الحسية، البريئة أو المحرمة، باسم الأخلاق والشرف، ويبيحون لأنفسهم قتله من دون أن يخامرهم أي شعور بالذنب.
ميول ونوازع
في “استئجار الأشباح” هل يريد سليم بركات التعريض بالتلفيق الذي يمارسه كتاب السير الروائية مقابل المال الذي يحصلون عليه أم يريد التنديد بهذه العادة التي درج عليها المشاهير والأغنياء، فيصطنعون كتبة لسيرهم، ينسبون إليهم ما لم يفعلوا، ويحررونهم من تبعات ما فعلوا، فيبدو صاحب السيرة بطلاً قومياً أو صانع معجزات؟ هل يريد تظهير خطورة القتلة المحترفين الذين يمارسون القتل في الأقبية المظلمة، ويتخذون من المظاهر المشروعة إطاراً للتحضير لجرائمهم غير المشروعة؟
وأيّاً يكُن ما أراد الكاتب قوله، فهل كان الأمر يستحق إراقة مئات الصفحات لقول ما يريد؟ ومع هذا، لا بد من الإشارة إلى أنه تتجاور في الرواية النوازع الإجرامية (هايلون) والانحراف السلوكي (يانتيل) والتواطؤ غير المعلن (زوريا) والميول المثلية (إيكولا) والنفس السجالي (ميراكو) والتحرش الجنسي (ساردو) والانجذاب العاطفي (روكاس) والكلام المماحك (ديسو) والفضول العلمي (بوركا) وغيرها.
على أن ذلك كله، لا يحول دون اعترافنا برشاقة السرد الذي يجري فيه الانتقال بين المشاهد بسهولة ويسر، وطلاوة الحوار الذي يختلط فيه التصريح بالتلميح، والمباشرة بالتورية وروائية اللغة التي تؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة وتعدّد مستوياتها. وبمعزل عن ماهية القول، مما سلفت الإشارة إليه أعلاه، فإن الكيفية التي يتم بها، مضافة إلى المكونات الأخرى الآنفة الذكر، تدفعنا إلى القول إن “استئجار الأشباح” عالية السرد، وإن سليم بركات روائي محترف. بالتالي، إذا ما قلّت حصة القارئ من فائدة المقول فإن حصته من المتعة ستكون كبيرة، ولعل هذا ما يعوّل عليه النوع الروائي، في نهاية المطاف.