نحن بإزاء معرض ليس كبقية المعارض، يشير عنوانه إلى ما حقق من ثورة انقلابية في التصحيح الجديد لتاريخ الإنطباعية، وتأكيد هذه الحركة المفصلية منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي قادت إلى شتى روافد مدارس وتيارات الحداثة والمعاصرة. ولكن كيف تم هذا التصحيح؟ علينا أن نعود إلى صفر البداية لنكتشف طرق تزوير تاريخ الفن لأسباب سياسية أو قومية أو حتى استثمارية.
كنت قد أسلفت هذه الحقيقة مرتين: الأولى في حوار مع محطة تلفزيون 24 والثانية في مقالة نشرت مؤخرًا في منبر “ضفة ثالثة”، وأكدت أن تأسيس الانطباعية كان من قِبَل الفنان الأول أوجين بودان في مدينة الهاڤر (مرفأ واقع شمال غرب فرنسا) وهو أستاذ وصديق كلود مونيه، وأؤكد من جديد هذه الحقيقة الانقلابية بمناسبة العرض الباريسي الراهن.
يقام هذا المعرض في متحف كلود مونيه المعروف باسم “مارماتون” في باريس، حيث تجتمع لأول مرة ثمانون لوحة للمعلم أوجين بودان لترسم تطور عبقريته وفد أغلبها من مجموعة “يان غوينغارش”، وكذلك لوحات مستعارة من مؤسسات أُخرى خاصةً من مجموعة أندريه مالرو (متحف الفن المعاصر في الهاڤر) ومتحف الفنون الجميلة لمدينة آجان. بما يسمح بتعقب تطور أسلوبه لأول مرة. ابتدأ المعرض من التاسع من نيسان/ أبريل مستمرًا حتى نهاية آب/ أغسطس من العام الجاري 2025م.
“حفلة موسيقية في كازينو دوڤيل”، 1863م
استطعت أن أتوصل إلى هذه الحقيقة باعتمادي على منهج إيتين سوريو، مؤسس فلسفة علم الجمال (فلسفة أو تحليل مخبر علم الجمال المقارن) في حين أن المعرض اعتمد في تبشيره هذا على أرشيف معروف يحمل اسم صاحبه دوران رويل مؤكدًا أن الأب الحقيقي للانطباعية هو أستاذ وصديق كلود مونيه (الذي درجنا على إنساب هذه المبادرة له)، أي أوجين بودان الذي يكبره بعشرين عامًا.
أوجين بودان من مواليد عام 1824م في هونفلور ومتوفي عام 1898م في مدينة دوڤيل، بينما كلود مونيه من مواليد باريس عام 1840م، استقرت عائلته بعد فترة وجيزة في الهافر مستقر بودان وتوفي في محترفه في مدينة جيڤرني عام 1926م.
“هذا المعرض يعيد إلى العبقري أوجين بودان حقه، وكذلك يعيد تحديد موقعه الأصيل في تاريخ الحداثة والمعاصرة لما بعد الانطباعية”
دعا بودان مثل مونيه للخروج من عتمة المحترفات إلى الهواء الطلق، وتحليل الغلاف الضوئي للطبيعة وفق نواظم القزحية المتكاملة (الباردة والحارة) حسب البحوث السابقة في الفيزياء البصرية التي أسسها العالم ميشيل – أوجين شيفرول لصناعة ألوان الأنسجة والسجاجيد والبسط ضمن نظام الهارموني الذي يقتصر على الدائرة اللونية، ووهم البصر إلى خلائطها عن بعد على الشبكية التوليفية وليس بالخلط الكيميائي على الباليتا، فالأصفر يقابله ظل البنفسجي والبرتقالي الأزرق والأحمر الأخضر مع رهافة ضبط أنواعهم، فالبرتقالي عن بعد يختلط توليفيًا على الشبكية بوضع الأصفر بجانب الأحمر على الأرضية البيضاء مما ينتج قزحية طبيعية متوهجة، مثالها البليغ تصاوير مونيه لكاتدرائية النوتردام في مدينة روان. اقتناها تاجر أميركي قبل إنجازها وكان يسوق بنفس الوقت لوحات بودان ولكنه كان يعتبر مونيه أشد نجومية لتأثير تجريده الأخير على بعض فناني مدرسة نيويورك.
“جمهرات على شاطئ البحر”، 1876 م
من الضروري استدراك أن بودان كان أكبر عضوٍ في المجموعة، يشارك معهم في معارضهم، وكان المعلم الأكبر الذي اختص قبل مونيه بعالم المياه على شواطىء البحار في الهاڤر والنورماندي والمتوسطية. رافق تلميذه مونيه إلى النورماندي وكذلك إلى الجنوب منذ المعرض الانطباعي الأول عام 1874م، لكن لوحات مونيه المتأثرة بمشاهد مرفأ لندن وحرائقه أصبحت رمزًا نقديًا للمجموعة عام 1872م خاصةً مشهد انعكاس الشمس.
مقارنة منهجية: بودان – مونيه
إذا طبقنا منهج علم الجمال المقارن الذي يمثل عقيدتي المنهجية في الكتابة، علينا أن نقابل لوحات المعرض الراهن الثمانين بما نذكره من لوحات تلميذه كلود مونيه وسيتبين لنا أسباب إهمال المعلم بودان على عبقريته التصويرية ونجومية منافسه العبقري بدوره وهو كلود مونيه.
اجتمعت العبقريتان على الانخراط في مجموعة الانطباعية منذ المعرض الأول (في محترف نادار – باريس عام 1874م)، لكن بودان، الذي كان أكبرهم عمرًا، انفصل عن المجموعة في أواخر عهدها فترسخ بذلك إهماله رغم أن العديد من النقاد والذواقة يعتبرونه أشدهم موهبة لعدم انفصاله عن سياق تطور حداثة الانطباعيين ولكن بصيغة متدرجة ما بعد رومانسية أوجين دولاكروا.
من اليمين: “منحدرات شاطئية حادة”، شارك مونيه في هذا المشهد/ “نزهة في غابات شواطئ البحار”/ “تخصص في العالم العائم” حسب التعبير الياباني
دعونا نتأمل شدة اختصاصه في الشواطئ سواء الشمالية منها أو الجنوبية (مثل كلود مونيه) ولكنها شواطئ مكتظة بالمتنزهين، استطاع بتقنية الفراشي العريضة (بعكس تغطية مونيه التوليفة اللونية) أن يتحسس تأثير نسمات ورياح البلاجات البحرية على الملابس بألوانها النورانية المقزحة. لذلك لم تُرفض له لوحة في الصالون العام لعدم تطرفه. وبالعكس فإن مونيه اقترب من التجريد في مراحله الأخيرة واستلهم من هذه النتائج العديد من فناني مدرسة نيويورك، بما أن التاجر الأميركي كان مشتركًا بين الاثنين فكان يفضل مونيه منذ أن اقتنى كامل مجموعته التي صور فيها واجهة كاتدرائية النوتردام في مدينة روان الفرنسية. ثم أشرف على تصاميم بحيرته في محترفه بمدينة جيڤرني (بحرات النينفار) وكذلك الجسر الياباني ثم شيد بجانبها متحف الانطباعية الأميركية حتى أصبحت مدينة جيڤرني اليوم قبلة سياحية.
لعله من الجدير بالذكر أن الشراكة الأميركية تمت من خلال الفنانين التسعة الذين شاركوا في معارض الانطباعية، ناهيك عن تأثير مونيه وسفره مع التاجر بول دوران – رويل إلى نيويورك وتعرفه على أبرز المتاحف فيها بما في ذلك متحف المتروبوليتان.
بمعزل عن كل هذه التفاصيل وسواها التي صنعت أسطورة كلود مونيه فإن معرض اليوم الذي توقفنا عنده هنا يعيد إلى العبقري أوجين بودان حقه، وكذلك يعيد تحديد موقعه الأصيل في تاريخ الحداثة والمعاصرة لما بعد الانطباعية.
شارك هذا المقال