لا يغيب فان غوخ عن المشهد الفني العام إلا ليعود إليه من جديد، وربما هذه المرة بصورة أكثر حميمية. فالعودة هذه المرة، التي ستمتد على أشهر هذا الخريف كما إلى بعض من أسابيع الشتاء المقبل وإن كانت ثلاثية إلا أنها تبدو أكثر حميمية بل حتى درامية مما كان الأمر عليه في أي وقت مضى. وهي عودة موزعة، وفي وقت متقارب، بين ثلاث مناطق: باريس ( حتى بدايات فبراير) وقرية صغيرة غير بعيدة من باريس هي أوفير- سور- واز (خلال الفترة نفسها تقريبا) ثم، أخيراً، أمستردام في هولندا حيث يقوم أعظم صرح لفن في العالم (متحف الفنان الذي يضم العدد الأكبر والأجمل من أعماله). أما الحميمية التي تطبع هذه المناسبات الثلاث فتتعلق طبعاً بكون المعرض الثلاثي يقدم عبر لوحات الفنان صورة رائعة ومؤسية في الوقت نفسه لنحو 72 يوماً كانت آخر أيامه وأنتج خلالها ما يزيد قليلاً على ذلك العدد من لوحات رسمها جميعاً في أوفير- سور- واز وهو يسابق الزمن ضد آلامه وموته الذي كان يراه وشيكاً، ومع ذلك عرف كيف يطبع اللوحات التي أنجزها هناك بحياة متلألئة بالألوان سواء كانت اللوحات، في غالبيتها على أي حال، تنقل من الطبيعة الساحرة هناك بعض أجمل مشاهدها، أو تأتي عبارة عن بورتريهات لقلة من أناس كان يعيش بينهم وربما يرسمهم مكرهاً كما سنكتشف بعد قليل

قريباً من طبيبه

ولكن وقبل أي شيء آخر يطرح هنا سؤال مهم نفسه: لماذا نقل فان غوخ سكنه وعمله وتفاعله مع الطبيعة إلى تلك المنطقة القريبة من باريس بعدما كان أمضى زمناً طويلاً في الجنوب الفرنسي يستلهم شمسه وألوانه ويتغذى من مناخه الصحي؟ من الواضح أن ما يكتب الآن، في مقالات كثيرة وكتب غنية وساحرة، حول المعارض، يأتي بأجوبة واضحة ربما أهمها أن الفنان اختار السكن هناك لأنه نصح بأن يقيم في حمى طبيب بارع هو الدكتور غاشيه الذي اشتهر بحبه للفن ورعايته للانطباعيين خاصة، وأكثر من ذلك، بأساليبه الطبية غير التقليدية التي كان من شأنها في رأي أصحاب النصيحة أن تشفي فان غوخ نفسياً من أمراضه… النفسية والتي سيؤكد غاشيه أن الشاب الثلاثيني الذي كان فنه قد بدأ يغزو عالم الفن لا يعاني سوى بعضها ولا يمكن اعتباره مريضاً بصورة عضوية. ولعل فان غوخ، إذ بات في نهاية الأمر على يقين من ذلك تحت تأثير الطبيب البارع في شفاء مرضاه براعته في الصيد وفي العناية بحديقته كما براعة ابنتيه الصبيتين في العزف على البيانو، شد من همته لينتهي الأمر به بأن يضع حداً لحياته بنفسه ذات يوم وهو يتجول في حقول البلدة الفاتنة عندما عجز “المرض” عن أن يفتك به، بإطلاق رصاصة على بطنه لن تمهله سوى ساعات قبل رحيله راضياً مطمئناً، رغم كل الجهود التي بذلها الطبيب الطيب ونطاسيون آخرون جاء بهم من باريس شقيق فنسنت الأصغر ثيو ورفيقه الوحيد في حياته القصيرة، علماً أن ثيو كان هو المريض الحقيقي إلى درجة أنه سيلحق شقيقه الفنان إلى القبر بعد أشهر قليلة فتقوم جوهانا، زوجة ثيو بجمعهما معاً في قبرين متجاورين في المنطقة الباريسية نفسها، لتوقف حياتها ونشاطها منذ ذلك الحين على تمجيد ذكراهما وملء السوق الفنية الأوروبية بعشرات اللوحات التي ورثتها عن ثيو كتاجر فن معتبر وعن فنسنت كواحد من أكبر الرسامين والملونين الذين عرفهم تاريخ الفن.

حكاية معروفة

مهما يكن، نعرف طبعاً أن هذه الحكاية معروفة في تفاصيل تفاصيلها فأي جديد في الأمر اليوم؟ لا جديد على الإطلاق سوى كونها ذريعة للعودة إلى فنان لا تحتاج العودة إليه إلى ذريعة. بل إلى حكاية كانت السينما نفسها قد قدمتها قبل ثلث قرن من اليوم في بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي وفي فيلم فرنسي تحديداً قد لا يكون من أجمل ما حقق عن فان غوخ، وخصوصاً بالمقارنة مع فيلموغرافيا خاصة به تضم أكثر من دزينة من أفلام بديعة بدءاً من “ظمأ للحياة” للأميركي الرائع فنسنت مينيللي (1956) وصولاً إلى الشريط الرائع “المحب فنسنت” الذي اتبع قبل خمس سنوات أسلوباً رائعاً في تصوير حياة الفنان وآخر أيامه عبر رسوم متحركة اقتبست مباشرة من لوحاته محركة إياها بشكل بديع. ومع ذلك كان لا بد دائماً من النظر إلى الفيلم الذي نتحدث عنه وعنوانه “فان غوخ” الذي حققه الفرنسي موريس بيالا عام 1991 من تمثيل المغني جاك دوترون باعتباره الأصدق والأكثر عمقاً في سبره أغوار الدوافع التي حدت بفان غوخ إلى إنهاء حياته بالطريقة التي أنهاها وهو بعد في منتصف ثلاثينياته.

لعبة مرايا

والحقيقة أن فيلم بيالا قد يبدو اليوم من الصدق في تعبيره الحقيقي والأكثر جوانية عن فان غوخ وأزمته التي قادته إلى نهايته متناولاً نفس المرحلة التي تتناولها معارض اليوم، بصرف النظر عن قيمة الفيلم في حد ذاته، إلى درجة يمكن التعبير عنها من خلال الحكاية التالية التي روتها زوجه المخرج سيلفي بعد رحيله في عام 2003 مما يعني أن “فان غوخ” كان واحداً من آخر أفلامه: “في اليوم الذي انتهى فيه موريس من كتابة السيناريو أعطاني نسخة منه لأقرأها. وعندما فعلت نظرت إليه بكل هدوء وسألته: “كان الأجدر بك أن تجعل عنوان الفيلم “موريس” فهو يحكي عنك بأكثر مما يحكي عن فان غوخ”. ومن الواضح لمن يشاهد الفيلم أن السينمائي الفرنسي وضع كثيراً من ذاته على الشاشة من خلال فنان لم يكن المفضل لديه على أي حال هو الذي كان معجباً بأعمال ديغا وبوسان أكثر كثيراً مما بأعمال فان غوخ، لكنه بالتأكيد وجد في حياة ومعاناة هذا الأخير كما في أسئلته الشائكة حول جدوى الفن وجدوى الحياة، مرآة تعكس ما كان هو يجابهه في تلك المرحلة المتقدمة من حياته. ومن المؤكد أن هذا الجانب الذاتي كان هو الأساس في القيمة البرانية التي اتخذها فيلمه. وهو الجانب الذي لا شك سيعود إلى التحليق في فضاء عالم فان غوخ اليوم بشكل أكثر حدة على ضوء معرض يعيد إلى الواجهة لوحات لا بد أخيراً من ملاحظة كيف أن الرسام، على رغم ما يبدو في ظاهر الأمر من أنه يحتفل فيها بالفن والحياة معاً وبألوان قد تبدو غريبة بعض الشيء على عالم ألوانه المعهود، جعل معظمها، لا سيما الأكثر ضخامة من بينها، خالية من الناس فلو وجدوا بدوا على شكل أشباح عابرة. بل حتى لوحته الرائعة التي صور فيها بلدية القرية مزينة واجهتها وجوارها احتفالاً بالعيد الوطني، فارغة من أي محتفل مما يدفع الناظر إلى اللوحة إلى التساؤل أين هم الناس؟ ولماذا حرص الفنان، ومن دون أن يعي ذلك تماماً، على أن يصور وحدته المقلقة في ريف يعبق بكل ذلك القدر من الجمال والبهاء. ترى أفلم يكن يصور عالماً “خيالياً” يريد أن يعبر عن رغبته من خلال خلوه في أن يمتلكه وحده؟

السعادة وحدة في الحقول

ذلكم هو السؤال الأساس الذي يمكن اليوم طرحه من خلال تأمل تلك اللوحات التي ختم بها فان غوخ حياته يائساً حتى من أن يكون مريضاً، معبراً عن خواء عيش لم يحس إزاءه بأي سعادة إلا حين يكون وحيداً في الحقول والبراري يتجول بألوانه ليشعر بتعاسة لا تطاق في كل مرة يلتقي بها شخصاً غيره ويضطر إلى إلقاء السلام عليه! وهنا على أي حال قد يعترض قارئ بأن ثمة من بين لوحات فان غوخ الأخيرة والمتجولة اليوم بين المعارض الثلاثة، بورتريهات تمثل بنتي الدكتور غاشيه والدكتور نفسه. ولعل الجواب البديهي الذي يمكن استخلاصه من تلك البورتريهات القليلة يتمثل في سؤال تال هو: ترى ألا يمكن للناظر لتلك اللوحات أن يلاحظ الوحدة المطلقة التي يعيشها من صورهم فان غوخ فيها والحزن المطلق الماثل في نظراتهم ليستنتج، كما يفيدنا فيلم بيالا على أي حال، بأن الفنان المرهف الحس قد جعل من تلك البورتريهات مرايا له ولجوانيته “المحتضرة” في نهاية الأمر؟