–
رغم مشاعر الشك والتردّد التي طبعت المواقف الخليجية المبكّرة من التغيير “الصادم” الذي شهدته دمشق في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فإن الأمر لم يستغرق، بعد ذلك، وقتاً طويلاً حتى استوعبت السياسات الخليجية عمق التحول الذي أحدثه سقوط الأسد في المنطقة والعالم. ومن الواضح أن التوجهات الأيديولوجية للحكم السوري الجديد، الذي تنحدر أغلب فصائله، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، من خلفيات إسلامية، سلفية تحديداً، كانت العامل الرئيس وراء التوجس الخليجي الأولي من الزلزال السياسي السوري. ومن الواضح أيضاً أن دول الخليج العربية، التي أخذ يتراجع دورها في الصراع السوري منذ عام 2018، وقطع بعضها صلاته بجماعات المعارضة التي كانت تدعمها سابقاً، تزامناً مع بدء انفتاحها على نظام الأسد، لم تكن على دراية بعمق التحولات التي طرأت على هيئة تحرير الشام، والجماعات المرتبطة بها، ليس بسبب مراجعات فكرية، كما حصل مع جماعات إسلامية أخرى، بل بسبب اضطرارها للتعامل مع الواقع المعيش، بعد أن صارت سلطة حكمٍ في إدلب، مسؤولة عن تدبير حياة أكثر من أربعة ملايين نسمة. ولم تكن دول الخليج على اطّلاع أيضاً، كما يبدو، على الاتصالات والمناقشات التي كانت تجري بين قيادات في الهيئة وبعض الحكومات الغربية، في إطار ما يسمى بالمسار الثاني، حيث لعبت مراكز أبحاث وشخصيات أكاديمية غربية بارزة دوراً في نقل الرسائل بين الطرفين. وقد ازداد الحماس الخليجي للنظام الجديد في دمشق بالتأكيد بفعل الانفتاح الغربي عليه، والذي برز جلياً في الأيام الأولى لسقوط الأسد، في زيارات قامت بها إلى دمشق وفود دبلوماسية رفيعة من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وكذلك بعد سلسلة الرسائل والتطمينات التي مررها النظام الجديد بأن توجهاته الأيديولوجية لن تتجاوز سياساته الداخلية إلى علاقاته الدولية. شجّع هذا كله تبلور توجّه قوي لدى أكثرية دول الخليج العربية بوجود فرصة مهمّة برزت نتيجة التغيير في دمشق، وأنه يمكن الاستفادة منها لإعادة تشكيل المنطقة، بما يخدم مصالحها وتوجهاتها السياسية.
بالنسبة لدول الخليج، ليست سورية تفصيلاً، أو هامشاً إقليميّاً، بل تحتل، منذ استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، مكان القلب في حساباتها الاستراتيجية (نتحدث هنا خصوصاً عن السعودية)، وعلاقات القوة والتنافس مع قوى المنطقة الرئيسة. خلال عهد الملكين سعود وفيصل والرئيس جمال عبد الناصر، كانت سورية مركز الصراع السعودي – المصري، كما كانت مركز الصراع السعودي – الهاشمي بجناحيه العراقي والأردني. ولم تكن السعودية لهذا السبب بعيدة عن أكثر الانقلابات العسكرية التي شهدتها سورية بين 1949 – 1963، كما كان كذلك الهاشميون والمصريون.
بعد قطيعة خلال عهد اليساري الشعبوي صلاح جديد (1966- 1970) عادت سورية جزءاً مهماً من توازنات القوى التي دعمتها السعودية لمواجهة “البعث” العراقي الذي أخذ موقفاً متشدّداً من دول الخليج العربية، وسعى إلى إسقاط حكوماتها، ومثَّل انفتاح حافظ الأسد على السعودية في عهد فيصل، وعلى إيران في عهد الشاه، دليلاً على ذلك. لكن الوضع تغيّر بعد ثورة الخميني، إذ صارت إيران مصدر الخطر على دول الخليج، بدلاً من “البعث” العراقي. ورغم أن حافظ الأسد ساند إيران التي كان هدفها المعلن تصدير الثورة، وإسقاط نظم الخليج المحافظة، فإن الملك فهد استمر، حتى عام 1984، في ارسال حصّة سورية من المساعدات العربية (750 مليون دولار سنوياً) التي أقرّتها قمّة بغداد (1978) لدول الطوق، بعد خروج مصر من الصف العربي، بفعل اتفاقية كامب ديفيد، خشية أن يدفعها قطعُها كلياً إلى الحضن الإيراني.
بسقوط نظام الأسد، تبرُز اليوم أمام دول الخليج فرصة جديدة لإعادة التوازن الإقليمي الذي انهار بفعل الغزو الأميركي العراق، ثم ثورات الربيع العربي التي استغلتها إيران، لبسط نفوذها على امتداد المشرق العربي. تركن السعودية حاليّاً إلى أن سورية الجديدة ستأخذ دور العراق التقليدي في صد النفوذ الإيراني، وفي موازنة العراق أيضاً، كما درجت على ذلك تاريخيّاً. هنا يبدو أن الأمل في انتزاع العراق من النفوذ الإيراني بات ضعيفاً (بدليل مستوى التمثيل الخليجي في قمّة بغداد أخيراً)، في حين يقلل تحوّل سورية إلى دولة حليفة من تكلفة الاعتماد على مصر التي باتت فاتورة دعمها مرهقة، وعوائدها غير مجدية، كما يمنع سيطرة تركية كاملة في دمشق.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News