لم تكن أراضي ريف إدلب الجنوبي الوحيدة التي أصابها الجفاف هذا العام، إذ حالها كحال الحقول في محافظات حماة، وإدلب، وحلب، وحمص، والرقة، وغيرها من المحافظات السورية، التي لم يعد أصحابها يأملون بموسم سخي، أو حتى موسم يعوّض لهم ما خسروه على الزراعة لهذا العام.
يفرك عبد القادر الراشد بيديه المتعبتين بعضًا من سنابل القمح من حقله في ريف إدلب الجنوبي للاطمئنان على نتاج المحصول، لكن هذا العام لا يقع في يدي الراشد إلا بعض الحبات العطشى، التي لم ترتوِ على مدار العام بماء السماء.
أثناء تجوّله بين سنابل القمح بالقرب من بلدة الهبيط جنوب إدلب، يقول المزارع الراشد لـ”درج”: “حال محصول القمح هذا العام بالنسبة لي كالطفل الرضيع الجائع وثديا أمه فارغان من الحليب، وهذا ما حصل معنا في هذا الموسم، حيث كنا نرى حقولنا عطشى ولم تحصل على كميات أمطار كافية، ولا نملك حيلة لريّها، بخاصة بعد سرقة ميليشيات النظام السابق تجهيزات آبار المياه وردمها وغياب الكهرباء عن المنطقة، عوامل ساهمت جميعها في تدهور المحصول هذا العام، الذي لا أتوقع أن تصل إنتاجيته إلى 10 في المئة مقارنة بالسنوات الماضية”.
لم تكن أراضي ريف إدلب الجنوبي الوحيدة التي أصابها الجفاف هذا العام، إذ حالها كحال الحقول في محافظات حماة، وإدلب، وحلب، وحمص، والرقة، وغيرها من المحافظات السورية، التي لم يعد أصحابها يأملون بموسم سخي، أو حتى موسم يعوّض لهم ما خسروه على الزراعة لهذا العام.
وفي بلدة كفرنبودة شمال غربي محافظة حماة، وجد المزارع حسين أبو محمد نفسه مضطرًا إلى ترك حقله المزروع بالقمح للأغنام، بعد تدهور حال النباتات بسبب انحباس الأمطار، وعجزه عن ريّ أرضه بسبب افتقاره الى الأموال اللازمة لذلك، لا سيما أنه عاد حديثًا إلى أرضه بعد موجة نزوح طويلة في المخيمات.
يقول حسين: “يومًا بعد آخر، كانت نباتات القمح تتراجع خضرتها حتى وصلت إلى اللون الأصفر في منتصف شهر نيسان/ أبريل، وبدت السنابل الفارغة أصلًا من الحب تتساقط على الأرض، وبالرغم من مكابرتي لأكثر من شهرين على حال حقل القمح، وحزني المتواصل عليه، لم أجد حلًا غير تأجير الحقل لرعاة الأغنام، علّي أستطيع شراء خبز لعائلتي التي كانت تنتظر محصول القمح لترميم منزلنا المدمّر بفعل براميل نظام الأسد البائد”.
الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر في سوريا
حذّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) من أن الجفاف الحاد الذي تتعرض له سوريا في عام 2025 قد يؤدي إلى فشل ما يصل إلى 75 في المئة من محصول القمح المحلي، ما يهدد الأمن الغذائي لملايين السكان.
وقال توني إيتل، ممثل الفاو في سوريا، في تصريح نقلته وكالة “رويترز”، إن المنظمة تتوقع عجزاً غذائياً يُقدّر بـ2,7 مليون طن من القمح هذا العام، وهو ما يعادل الكمية اللازمة لإطعام نحو 16,3 مليون شخص لمدة عام كامل.
توقعات الفاو سبقها تصريحات وُصفت بـ”المخيفة” من الهيئة العامة لإدارة وتطوير الغاب بخروج آلاف الهكتارات من المساحة المزروعة بالقمح في مجال إشراف الهيئة العامة لإدارة وتطوير الغاب والبالغة 52541 هكتاراً، بسبب انحباس الأمطار خلال الموسم الزراعي الحالي فيما تعتبر منطقة سهل الغاب من السلل الزراعية الاستراتيجية في سوريا.
لم يكن انحباس الأمطار السبب الوحيد في تدهور محصول القمح، وإن كان هو الأكبر، بحسب الأستاذ عبد العزيز القاسم، المدير العام لهيئة تطوير الغاب.
وفي حديثه لـ”درج”، قال القاسم إن خروج سد أفاميا عن الخدمة بسبب سرقة قوات النظام السابق وميليشياته معداته وتجهيزاته، أدى إلى تدهور المخزون المائي في المنطقة، إضافة إلى ارتفاع أسعار تجهيزات الريّ من الآبار، وارتفاع أسعار الديزل، وتخريب قنوات الري وعدم صيانتها منذ فترة طويلة. هذه الأسباب اجتمعت هذا العام على محصول القمح، وأدت إلى تدهوره في المنطقة.
لا أرض ولا دار
عادت عائلة هزاع الهواري إلى سراقب بعد نزوح قسري عن أرضها لسنوات طويلة، والأمل يحدوها بزراعة الأرض حتى تتمكن الأسرة من ترميم منزلها من نتاج محصول القمح. ومنذ الأيام الأولى لتحرير المنطقة، وصل الهواري إلى أرضه، وعمل على تهيئتها وحراثتها وزراعتها بالقمح في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024.
يقول الهواري إن منزله مدمّر بنسبة 60 في المئة، ويضيف: “مع عودتي وعائلتي إلى المنطقة، أمضينا كل فصل الشتاء والبرد في غرفة تفتقر إلى الشبابيك والأبواب، استعَضْنا عنها ببعض البطانيات، وننتظر بفارغ الصبر محصول القمح حتى نشتري تجهيزات ومواد بناء للمنزل، لكن مع تأخر الأمطار وعجزنا عن ريّ القمح، تراجع المحصول بشكل مخيف أمام أعيننا، ولم نستفد منه بليرة واحدة، لا سيما أن مساحة حقلي تفوق الـ100 دونم”.
يضيف الهواري: “اضطررت إلى بيع 20 دونمًا من أرضي حتى نشتري الطعام والشراب وبعض أساسيات المعيشة. أما ترميم المنزل فلم يعد الهدف الرئيسي لنا، ولا أعلم إن كنت سأضطر إلى بيع المزيد من الأرض حتى العام المقبل لنبقى على قيد الحياة ولا نجوع فقط”.
موسم كارثي والحكومة تتحرك
بحسب الناشط في أبحاث المناخ والبيئة، المهندس أنس رحمون، فإن محصول القمح المزروع بعلًا يحتاج إلى كمية هطول مطري تزيد عن 235 ملم سنويًا، وكلما زاد الهطول زاد الإنتاج. أما الواقع الحالي، فيُظهر أن غالبية المناطق البعلية في سوريا لم تتجاوز كمية الهطولات المطرية فيها 250 ملم، وبالتالي خرجت مساحات القمح من الخدمة، وكان الموسم كارثيًا.
وبحسب مسؤول في وزارة الزراعة السورية، فإن توقعات الإنتاج للعام الحالي لا تغطي سوى 19 في المئة من احتياج السوريين من الخبز. وقد دفع التدهور الكبير في موسم القمح والجفاف المتفاقم في المنطقة الحكومة السورية إلى قبول شحنات من القمح العراقي لتغطية عجز إنتاج الخبز.
وفي حديث خاص لـ”درج”، قال مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في محافظة إدلب، الأستاذ ضياء العلي، إن منحة القمح المقدمة من العراق ساهمت في زيادة وزن ربطة الخبز في المحافظة، في حين تبلغ الكمية الإجمالية من التبرع العراقي 220 ألف طن تصل تباعًا إلى سوريا، وتُوزّع على المحافظات ليصار إلى توزيعها على المطاحن، ومن ثم المخابز.
وبالتوازي مع المنحة العراقية، قدّمت دولة قطر 734 طنًا من القمح إلى محافظة حمص، لسدّ حاجة المخابز في المحافظة، بحسب تصريحات مسؤولين لوسائل إعلام رسمية.
وقد كانت سوريا، حتى عام 2011، دولة مكتفية ذاتيًّا بل ومصدّرة للقمح، إذ بلغت المساحات المزروعة بالقمح عام 2007 نحو 1.7 مليون هكتار، بمعدل إنتاجي يزيد عن 4 ملايين طن.
خطوات حكومية تجاه القمح
منذ سقوط النظام اختلفت الأنباء عن القمح في سوريا، إذ وصلت شحنة روسية استثنائية لمرة واحدة، في حين أعلنت وزارة الزراعة أن تكلفة شراء القمح من المزارعين خلال عام 2025 بلغت نحو 1.2 تريليون ليرة سورية. وأضاف مدير عام المؤسسة العامة للحبوب في سوريا، حسن العثمان، أن التقديرات المتوقعة لمحصول القمح لهذا العام تبلغ أكثر من 750 ألف طن.
مقارنة مع عام 2024 استوردت الحكومة كميات من القمح بلغت 1.400 مليون طن لسدّ الفجوة بين الإنتاج المحلي والحاجة الفعلية للاستهلاك، صرح حينها المدير العام لمؤسسة الحبوب السورية، سامي هليل: “لدى الحكومة كميات تكفي حتى حزيران/ يونيو 2024، والذي يبدأ معه موسم شراء المحصول المحليّ”.
النقص يتضح في الحاجة للاستيراد التي نتلمسها في طرح مناقصة دولية طلبت فيها الحكومة السورية الجديدة شراء 100 ألف طن، سبقتها أخرى بالكميّة ذاتها، في ما وصف بـ “أول عملية شراء كبرى في مناقصة دولية منذ وصول الإدارة الجديدة”. لكنْ يبدو أن هناك تكتيك آخر قد تتبناه الحكومة، إذ أشارت نشرة the syria report، على لسان مصدر من وزارة الزراعة، أن الوزارة أخذت بالاعتبار التخلي عن دعم زراعة القمح، والسبب حسب المصدر “أن القمح يستهلك المياه بشكل كثيف”، الكلام ذاته الذي نقلته رويترز، إذ أشار مصدر إلى “الحد من المزروعات التي تحتاج إلى الكثير من المياه”.
وأضاف جهاد يازجي، الصحافي والخبير الاقتصادي: “من المحتمل أن الحكومة لن تصرّح علنًا عن توقفها عن دعم القمح. بدلاً من ذلك، سيُباع المازوت بأسعار السوق (وقد بدأ ذلك فعلاً في 8 كانون الأول/ ديسمبر)؛ ومن المحتمل أيضًا أن تعرض الحكومة شراء المحصول بأسعار أقل من السوق؛ كما ستتوقف عن تمويل البنية التحتية وعن تقديم القروض”.
من جهتها، أعلنت الحكومة السورية، عبر وزارة الزراعة، عن تسعيرة القمح الذي ستشتريه من المزارعين للعام الحالي، إذ بلغ سعر الطن الواحد 420 دولارًا أميركيًا. وقال حسن عثمان، المدير العام لمؤسسة الحبوب، في تصريح لوسائل إعلام محلية: “إن المؤسسة بانتظار الموافقة الرسمية على التعرفة التي قدمتها للجهات الوصائية”، مشيرًا إلى أنها “قدمت اقتراحًا بخصوص تسعيرة القمح لهذا الموسم، والمقدرة بنحو 420 دولارًا للطن الواحد”.
التسعيرة المطروحة من الحكومة وصفها مزارعون بأنها مرضية ومشجعة على زراعة القمح خلال المواسم المقبلة، مطالبين في الوقت نفسه بإيجاد آلية لدعم ري القمح حتى لا يكون المزارع ضحية للجفاف وانحباس الأمطار، لا سيما في المناطق التي يمر بها نهر العاصي، الذي يُعد موردًا مائيًا مهمًا.
أبلغت الجمعيات الفلاحية في 4/6/2025 مزارعي سهل الغاب عن البدء بتسليم منحة مالية لدعم زراعة القمح على مجرى نهر العاصي حيث كانت الدفعة الأولى تقدر بحوالي 100 دولار أمريكي وهي دفعة أولى من عدة دفعات
الجدير بالذكر أن محصول القمح هذا العام في منطقة سهل الغاب لم يمر بسلام، إذ أدّت الحرائق التي اندلعت في المساحات الزراعية إلى تلف 184 دونمًا، بينها 145 دونمًا مزروعة بالقمح، وتوزعت هذه الحرائق في الحقول التابعة لأقسام السقيلبية، الزيارة، عين الكروم، وشطحة.