عنوان أدبي جديد
ليس كثيرًا ولا غريبًا أن يجترح قارئ أو روائي أو ناقد تسمية نمط أدبي يتشكل ويظهر ويفرض وجوده الحي بين الأجناس الأدبية. التسمية ليست مهمة بقدر ما هي ترسيخ هوية واضحة للنوع الأدبي. أعني بذلك شيوع نمط “السرديات المضادة” Counter-narratives (1)، بهوية لا تشبه هويات الأجناس الأدبية الأخرى من رواية وقصة قصيرة وقصيدة أو حتى ملحمة شعرية.
هذه السرديات التي أفرزت نمطًا جديدًا من الكتابات في واقعها، ليست جديدة كليًا على شعريات الأدب بشكل عام، بل كانت مهملة نقديًا، ولم تُصنّف ضمن الأجناس الأدبية منذ العصر اليوناني القديم، لما كانت الملحمة الشعرية تستنجد ببطولات القادة والشعوب والبطولات الفردية والجماعية، وكانت الرواية تنمو تدريجيًا في ظلها، متخلصة من فكرة الشعر الملحمي، متجهة إلى السرد التاريخي على الأغلب. وهذا التخلص الفني من قبضة الشعر ساعد على تكوين نوع سردي لا يشبه الملحمة إلا بمقدار الفن الجمالي الذي فرّق بين الاثنين، وجعل من الرواية تتسع في العالم، وتنحسر الملحمة إلى حد كبير حتى اختفت مع متواليات الحقب الأدبية. غير أن الرواية؛ بالتقادم الزمني؛ أزاحت هي أيضًا الكثير من الهوامش الصغيرة، وعدّتها عبئًا يقلل من فاعليتها الفنية، فأزاحت الكثير من الهوامش وأبقت على القليل منها بما يشكل تأثيثًا طبيعيًا لديكورها الشخصي. فالمطبخ البيتي تظهر صورته عابرة فيها، وغرفة النوم موصوفة بالجنس، ليس فيها ديكورات داخلية وإضاءات محددة، والحدائق المنزلية تُظهر صورة رومانسية لا أكثر من هذا. والمدرسة مكان غير مؤطر بأهميته التعليمية. والدائرة الوظيفية تشغلها مجموعة موظفين كأنهم روبوتات تتحرك أو لا تتحرك. والشارع، بما فيه من فوضى وزحامات واختلاط الأجناس والهويات بين البشر، يمر كشريط سينمائي لا روح فيه. والغابة فيها حطب وأشجار وأوراق وطيور وحيوانات كثيرة وظلام ليلي. ومنزل الغانيات ينطوي على رعشات رجالية مدفوعة الأجر سلفًا، بلا مشاعر حب وشغف. والسوق الشعبية المكتظة بالنساء والرجال لم تُقرأ بصورة جمالية سوى أنها مكان للتبضع من دون استقراء تاريخها الشعبي، والمكتبة مجموعة مؤلفين من العالَم موتى وأحياء. والبيت بكل موجوداته الشخصية والتاريخية والنفسية والاعتبارية هو ديكور روائي ومكان لزوجة وزوج وخادمة وأطفال. هنالك الكوخ والكهف والسطح والممر والتلفاز والسيارات والموبايل وشريحته الإصبعية وكرة القدم والفراغ والتصفيق والبكاء والدموع والباب والقفل والمفتاح.
جنس أدبي ليس طارئًا
مثل هذه الهوامش البارزة وغيرها من تلك التي لا تظهر كثيرًا (الستارة. السجادة. الحبل. الثياب. البطانية. حنفية الماء. المراحيض. المصابيح… وغيرها) لا تحفل بها الرواية سوى أنها موجودة بذهن القارئ ولعلها غير موجودة أيضًا. وهذا ما نسميه بالهوامش التي لا تلفت أنظار الكاتب ولا تمر الكتابة عليها كثيرًا. لهذا فإن اجتراح تسمية السرديات المضادة، هو توصيف لقدرة الهوامش الأدبية على إيجاد هويتها الشخصية بين الهويات النمطية الأدبية، كنصوص ذات منحىً جمالي بتاريخيتها وأمكنتها وشعبيتها ودورها الفاعل في نظام الحياة.
القصد من هذا هو أن هناك نوعًا من الكتابات أخذت أدوارها الطبيعية مستدركة هوامش الحياة ابتداءً من البيت والمقهى والحارة والقرية والمدينة، حتى مفاصل الحياة بشكلها العام، أي تخلصت من هامشيتها الأدبية واستقرت على المتن الأدبي كأنموذج نشيّعه ونتقصّاه ونلفت الأنظار إليه كمتن أدبي، بما يتناسب مع العطاء الذي تقدمه تلك السرديات المضادة للتسمية. والتي تم التعامل معها على إنها بلا “هوية” أدبية، وعُدّت على هامشه، بسبب كونها طرأت على الكتابة منذ بدايات القرن العشرين، وتناولت ما كان يجب عدم تناوله على إنه إنتاج إبداعي شأنه شأن الملحمة والقصيدة والرواية والقصة والقصيدة؛ فاقترب مفهومها إلى مفهوم البحث أكثر من كونها سُلطة إبداعية التجأت إلى التاريخ والتقطت منه ما يجب أن تلتقطه منه لتعزيز وجودها وترصين فكرتها، بالتعاون مع التاريخ كمتطلب لا بد منه لمراقبة تطورها، بعيدًا عن الخيال. غير أن الزمن الأدبي الخلّاق أوجد لها فيما بعد فسحًا كثيرة ومناسبة لأن تتقدم ولو ببطء، وتُشرع هويتها الإبداعية في أنها نصوص تستقدم التاريخ والجغرافية والعلميات المتعددة لترسيخ فكرتها الضامنة باستيعاب المعرفيات وجمالياتها المختلفة.
الرواية المعرفية… الرواية العجائبية
حاولتْ ما سُمّي نقديًا بالرواية المعرفية أن تأخذ دورها في استدعاء العلوم والمعارف بما فيها التاريخ، لكنها أصيبت بداء نقدي اسمه التقريرية والتناص مع العلوم الأخرى، بعد انزياح الخيال عنها، لتكون مجردة من هذا الرافد الحيوي الذي يُنشيء علاقته الزمكانية بالطريقة الإبداعية التي درجت عليها الملاحم الشعرية والروايات والقصص على وجه الحصر. غير أن النماذج التي قرأناها في أوقات سابقة كانت محبطِة بأن تكون معرفيتها فنية قادرة على استدراج العلوم لمضامينها السردية الحيوية. ولا أعتقد بأنها نجحت كثيرًا لتكون بديلًا عن الملحمة، بل اقتربت كثيرًا من التجميع والأرشفة وزج جماليات العلوم الإنسانية في مضامينها المتعددة. في ما كانت الرواية الكلاسيكية غير قادرة على أن تستوعب زخم المعلومات الفائضة في العلوم الإنسانية، واكتفت بمعالجات الواقع وسياساته المختلفة وأثرها على البنية الاجتماعية والأخلاقية العامة. وهكذا نجح عصر الرواية الكلاسيكية في إيقاد فكرة أن الرواية المجتمعية وتوابعها هي الأكثر سلاسة في تقديم وقائع الواقع كما حصلت، في حين تراجعت الرواية المعرفية وتضاءل الاهتمام بها؛ فحشو المعلومات الواردة من منافذ أدبية وإنسانية وعلمية وتاريخية وجغرافية لم يقدم شيئًا فنيًا مهمًا إلى السرد الروائي.
وإذا ما أردنا أن نطوي حقبًا سردية طويلة المدى في استثمار نتائج ما آلت إليه سرديات الرواية، فإن أفضل النماذج التي يمكن أن تكون علامات متقدمة في المسار الروائي العالمي هي انتباهة أدباء أميركا اللاتينية؛ ماركيز ويوسا وإيزابيل الليندي واستورياس؛ ومثلهم أدباء القارة الأفريقية بالرغم من تعدد لغاتهم وولي سوينكا وتشينوا أتشيبي ونادين غورديمر وكوتزي؛ انتبهوا إلى هذا التداخل الذي كاد أن يطوّف الفن الروائي؛ فعالجوا الرواية المشتتة وذهبوا بها إلى أقصى درجة من الخيال الفائق؛ في معالجة الواقع الاجتماعي والسياسي وأثره على بنية المجتمع، وهو ما سُمي بالواقعية العجائبية، حيث اختلط الواقع بالخيال بالأرشيف التاريخي والمعلومات الدافعة إلى تكوين أدب روائي فيه من العجائبية وغريب الوقائع الشيء الكثير، وهو ما خلّص الفن الروائي من الرتابة الفنية والشكل الدارج في الكتابات السردية عمومًا. ومثل هذا التحول فتح الأبواب إلى مستعارات من المعرفيات الإنسانية الشاملة، لترتيب وقائع الكتابة المؤاخية للفنون الأدبية العامة وبأجناسها المختلفة. في الوقت الذي أصبحت فيه الملحمة الشعرية تاريخًا أدبيًا ماضيًا.
سرديات مضادّة للتسمية
حريٌّ بالقول إنه عندما بدأ عصر الرواية في ستينيات القرن الماضي، قطع شوطًا غير قصير في العالم الأدبي على حساب القصة والقصيدة والمسرحية. ونعتقد في خضم التحولات التكنولوجية واسعة النطاق بالعالم، أن تأخذ بعض الهوامش أدوارها الطبيعية بالصعود إلى المتن الأدبي العام، من دون أن تلغي مسارات إبداعية قارّة، ومن دون أن تنضوي تحت تسمية حُددت في الماضي. لهذا أعدّها “سرديات مضادة للتسمية” مستقلة بنصوصها المتشعبة التي تستنجد بما مضى تاريخيًا، وتتقدم إلى الأمام، لتحدد سلوكها الإبداعي والنقدي على حد سواء؛ أي أن عصر ما بعد الحداثة الأدبية، تلاه عصر ما بعده من الإبداعات الجمالية الكثيرة. ولكن عندما انتهى عصر الملاحم الكبيرة في الأفق الزمني القديم، عُدّت مسايرة لزمنها، وهي توثق تفاصيل كثيرة في الحياة، مثل ملحمة جلجامش التي ناقشت موضوعة البقاء والخلود بشكل درامي، وملاحم هوميروس والإلياذة والأوديسة لهوميروس عن حرب طروادة، والفردوس المفقود لجون ملتون، والشاهنامه للفردوسي، والمهابهاراتا الهندية لكرشنا دوايبايانا (فيدا فياسا)، والكوميديا الإلهية لدانتي، ودون كيخوت لثيربانتس، ومم زين الكوردية، والانياذة الرومانية، وأساطير نارت الشركسية القوقازية، و”منطق الطير” وسيف بن ذي يزن وتغريبة بني هلال، وغيرها من الملاحم الطويلة التي اعتمدت البناء الشعري والسرد القصصي الحكائي الطويل في منظومتها القصصية.
“تسمية السرديات المضادة، هو توصيف لقدرة الهوامش الأدبية على إيجاد هويتها الشخصية بين الهويات النمطية الأدبية”
نقول عندما ترك لنا الإرث الأدبي مثل تلك الملاحم الشهيرة، لم يعد إليها في زمن آخر، بالرغم من أن قصص المدن والشعوب تداخل فيها شيء من الأساطير والمبالغات السردية، مع معرفتنا بأن الفرق بين الاثنين لا يمنع من تداخلهما ضمن نسيج وصفي توحده أحداث الملحمة، معتمدة على النقل الشفاهي بين الأجيال من رواة قصص ومتتبعي أثر حكائي ممن يضيفون لها ويحذفون بما ينسجم مع تبنيهم النفسي لها. لهذا لا يمكن اعتماد ما تسجله الملحمة من تواريخ بوصفه الحقيقة الأخيرة. لكنها لا تخفي الحقيقة في جوهرها، بما تشكله من “أسس حقيقية للوعي” بحسب هيغل.
إيراد المعرفة المسندة للسرديات المضادة
وبالقدر الذي قرأنا فيه عشرات ومئات الروايات الأجنبية والعربية، نبّهَنا هذا إلى وجودٍ أدبي هامشي لا يقل جرأة وجمالًا عن بقية الأجناس الأدبية عبر ثلاثة كتب (*)، وليس ثلاثة مقالات. واستوفينا الحجة الأدبية بأن يكون هذا النوع من جماليات الكتابة في إطاره الذي قرأناه في المؤلفات الأجنبية والعربية، فالروائي والقاص والمسرحي والشاعر وكل مبدع في مجاله، لا يمكنه الكتابة عن أي شيء وفي كل شيء، مهما برع في الإنشاء والتصوير والأسلوب. فثمة كتابة لا تريد أن تنتمي إلى التجنيس المتعارف عليه (أسميناها السرديات المضادة) نتيجة إقصائها من دون قصد نقدي، لكنها تستفيد من الأجناس كلها، من أشكالها الزمنية المتحولة، وتضيف لها معرفة جديدة لا تستطيعها الرواية والقصة والقصيدة، لكي لا تصبح أرشيفية أو (تقريرية) وفي هذه الحالة يستطيع جنس السرديات المضادة للتسمية أن يأخذ أدوارًا لم تأخذها الرواية سابقًا، بإيراد المعرفة التاريخية والجغرافية والعلمية والنقدية والفلكية والرقمية والأدبية والشعبية والسحرية. ويستنير بهذه الثقافة العامة ويوظفها لصالح النص من دون أن يكون في حلقة التجنيس المتعارف عليها ليديم الصلة الإبداعية بها بوصفها مصادر إبداعية لا غنى عنها. وبالتالي فإن نصوص السرديات المضادة يمكن عدّهُا نوعًا مستقرًا بين الأجناس الأدبية، لا هجينًا بلا مرجعيات ثقافية ومعرفية وحضارية؛ لكنه يختلف عنها جميعًا في الشكل المطاط. لنسمّه الشكل الحوضي الذي يتسع ولا يضيق، كما يختلف عنها بالرؤيا الباطنية والمعالجة الفنية والمعرفية التي تستقطب ثقافات الحياة المهملة على وجه الخصوص. ومنها الثقافات الشعبية المركونة في زوايا البيت بشكل مصغّر وزوايا الحياة بشكل أعم. إذ لا توجد بينهما فاصلة يمكن أن تُحيل إلى هذه أو تلك من الموجودات الصغيرة والناعمة والمتروكة التي يُنظر اليها على أنها من فيوضات في الحياة الاجتماعية.
(*) كتبنا في السرديات المضادة هي: أصابع السرد (جماليات المهمل في الحياة)، دار ميزوبوتاميا- دار عدنان- بغداد- 2013؛ جماليات الكتابة (فصول من أصابع السرد)- دار ميزوبوتاميا- بغداد – 2015 (وجُمع الكتابان في مجلد واحد باسم “جماليات السرد في أصابع الكتابة” وصدر في بغداد – دار نشر ثائر العصامي- 2020)؛ متعة الهوامش- سرديات ما بعد السرد- دار الشؤون الثقافية – بغداد- 2025.
إحالات:
(1) في التسعينيات، كان منظّرو “النظرية العرقية النقدية” في الولايات المتحدة مثل Richard Delgado وKimberlé Crenshaw أول من استخدم مصطلح “السرديات المضادة” Counter-Narratives بشكل بارز في دراساتهم في استكشاف كيف يمكن للقصص أن تتحدى السرديات السائدة وتقدم وجهات نظر جديدة.
هوامش:
استورياس: أديب وشاعر وصحافي ودبلوماسي غواتيمالي. حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1967. أشهر رواياته ” “السيد الرئيس”. توفي عام 1974.
تشينوا أتشيبي: أحدُ أشهر رواد الرواية النيجيريين، وصاحبُ أحدِ أكثر الأصوات الأدبية تمثيلًا للقارة الأفريقية.
نادين غورديمر: من جنوب أفريقيا. حصلت على جائزة نوبل في الآداب عن مجمل أعمالها المناهضة للتمييز العنصري في بلادها عام 1991.
كوتزي: روائي من جنوب أفريقيا. حاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2003.
الشاهنامة: ملحمة فارسية ضخمة تقع في نحو ستين ألف بيت، من تصنيف أبي قاسم الفردوسي، نظمها الفردوسي للسلطان محمود الغزنوي مصورًا فيها تاريخ الفرس منذ العهود الأسطورية حتى زمن الفتح الإسلامي وسقوط الدولة الساسانية منتصف القرن السابع للميلاد.
المهابهاراتا: ملحمة الهند الرئيسية. تحوي تاريخ الهنود وأساطيرهم وحكاياتهم، وتعد لدى الهنود السفر الخامس من أسفار الحكمة، وهي مصدر غني من مصادر التصوف.
مم زين الكوردية: ملحمة شعرية من الأدب الكردي، كتبها أحمد خاني. تحكي قصة حب كلاسيكية في مرحلة تاريخية ممزوجة بقصة عشق بين الأميرة زين شقيقة حاكم بوطان وشاب يدعى مم، وهو ابن أحد عُمّال الأمير.
سيف بن ذي يزن: مَلِك حميري من فترة ما قبل الإسلام، جرت أسطرته بعد تحرير اليمن من الغزو الحبشي فشاع ذكره في الأدب الإسلامي.
أساطير نارت الشركسية: سلسلة من القصص التي تعود أصولها إلى منطقة القفقاس/ القوقاز الشمالي. أول المواد المكتوبة ظهرت باللغة الروسية على يد الكاتب الشركسي نغومه شورة الذي دونها ما بين عامي 1835 و1843 م.
تعريفات الأعلام والملاحم الشعرية والسردية من الموسوعة الحرة- ويكيبيديا.