Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • «كنتُ السوري الوحيد»: داعش أمام المحكمة في باريس……..رضوان سفرجلاني،،،المصدر:الجمهورية .نت
  • مقالات رأي

«كنتُ السوري الوحيد»: داعش أمام المحكمة في باريس……..رضوان سفرجلاني،،،المصدر:الجمهورية .نت

khalil المحرر يونيو 6, 2025

شهادة على مُحاكمة عناصر من تنظيم الدولة أمام القضاء الفرنسي (2)

في الجزء الأول من شهادتي كتبتُ عن علاقتي بالمحاكمة ومشاركتي فيها كطرف مدني، وعن قصتي في سجون داعش. وفي هذا الجزء، الثاني، أكتب عن القضية نفسها ووقائعها وسياقها.

* * * * *

الأسابيع الخمسة التي امتدت عليها محاكمة عناصر «الأمنيات»، الذي كان الجهاز الداخلي الأكثر سرّية وتنكيلاً في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بدت وكأنها محاولة لاستدعاء زمنٍ لم ينتهِ بعد، زمنٍ مُعلّق بين ذاكرة من نجا، وصمت من لم يَنجُ. في قاعة باريسية فخمة من زمن الملوك، جلسَ الناجون أمام القضاة، لا بوصفهم شهوداً فقط، بل كحاملي سرديات لا يملكها سواهم. كلماتٌ قيلت تحت التعذيب، شهاداتٌ انتُزعت من الأقبية، ووجوه لا تزال تظهر في الكوابيس، خرجت من الظلال لتواجه أسماء، وصوراً، وسكوتاً مُطبِقاً في قفص زجاجي محكم الإغلاق.

الأسماء التي وُجِّهت إليها التهم كانت معروفة، عرفهم السوريون جيداً، «أبو كذا»، و«أمير كذا»، كانوا كالظلال الثقيلة، أو كالأشباح، تُروى عنهم قصص الرعب، التعذيب والتصفية في سجونٍ لا تُرى، وتُنكَر حتى من قبل من يديرها. هنا، في هذه القاعة، كانت كل شهادة تُقال تفتح صدعاً في جدار النسيان، وكأن المحكمة لا تكتفي بإصدار الأحكام، بل تعيد ترتيب الزمن نفسه، وتمنحه، أخيراً، لحظة للعدالة، حتى وإن جاءت متأخرة.

من هم المتهمون؟ ولماذا هذه المحاكمة؟
لم تكن هذه المُحاكمة كسائر المحاكمات. هي الأولى من نوعها في بلد أوروبي، انعقدت وسط إجراءات أمنية مشددة وجدل قانوني وسياسي رافقها منذ بدايتها. هذه المحاكمة، التي امتدت من 17 شباط (فبراير) إلى 22 آذار (مارس) 2025، كانت لحظة نادرة، واجه فيها القانونُ الفرنسي مجموعة من الأشخاص الذين يُشتبَه في أنهم مثّلوا، في وقت ما، أحد أوجه تنظيم الدولة الإسلامية: ذلك الوجه الخفي داخل السجون، حيث يُحتجز الناس ويُعذَّبون، ولا يبقى من الأثر إلا ما يحمله الناجون في ذاكرتهم. خمس شخصيات وُجِّهت إليها تُهَم خطيرة تتراوح بين الانتماء إلى منظمة إرهابية، والمشاركة في احتجاز وتعذيب رهائن بشكل ممنهج داخل معتقلات التنظيم في سوريا بين عامي 2013 و2014. ثلاثة منهم حضروا جسدياً إلى المحكمة، واثنان يُحاكمان غيابياً بناء على افتراض وفاتهما في سوريا. لم يكن خطرُ هؤلاء محصوراً بسجون حلب والرقة، لقد تجاوز شَرُّهم حدود سوريا، عبر التخطيط، الإلهام، أو المشاركة المباشرة في تنفيذ عمليات إرهابية في أوروبا نفسها. لم يكونوا خطراً على «العدو الغربي» فحسب، بل على كل من كان خارج سرديتهم الضيقة: عرباً أو أجانب، مسلمين أو غير مسلمين، سوريين أو فرنسيين. من نجا منهم، حمل هذا العنف معه، أو زرعه في الآخرين، أو صمت عنه وهو يتكاثر.

كشفت الوثائق والشهادات أن ما جرى في تلك السجون لم يكن فوضى أو عنفاً اعتباطياً. بل كانت منظومة شمولية متكاملة، أقرب إلى معسكرات الاعتقال، مُؤسَّسةً على تحطيم الكرامة وسحق النفس البشرية؛ الحرمان من الطعام، التعليق، التعذيب بالكهرباء، الصدمات النفسية، وضعيات الإذلال، وحتى استخدام الكلوروفورم والحقن، كلها كانت أدوات يومية في يد هؤلاء الجهاديين.

1- مهدي نموش: مواطن فرنسي من أصول جزائرية، وُلد عام 1985 في منطقة روبيه شمال فرنسا، هجره والده عند الولادة، ووالدته لم تكن قادرة على تربيته، فانتقلَ إلى عائلة حاضنة منذ الصغر. بدأت مسيرته في عالم الإجرام داخل فرنسا بصفته لصاً صغيراً ومتورطاً في قضايا جنائية، 8 إدانات جنائية بين 2004 و2009، وسُجِنَ من ديسمبر (كانون الأول) 2007 حتى ديسمبر 2012 (خمس سنوات تقريباً). لكنه تَحوَّلَ تدريجياً في السجن إلى شخص متطرف دينياً. بعد خروجه من السجن نهاية العام 2012، توجّه نموش إلى سوريا عبر تركيا، حيث انضمَّ أولاً إلى جبهة النصرة، ثم التحق في منتصف 2013 بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. داخل الأراضي السورية، وتحديداً في حلب، لعب دوراً محورياً في شبكة احتجاز الرهائن الغربيين، حيث عمل سَجّاناً في مواقع مثل مستشفى العيون وسجن الشيخ نجار، وارتكب هناك أعمال تعذيب وحشية بحق صحفيين وعمال إغاثة ومواطنين مدنيين، سوريين وأجانب.

كان يُعرَف داخل صفوف التنظيم بكنية «أبو عمر الفرنسي»، وكان على علاقة وثيقة بأسماء جهادية بارزة مثل سليم بن غالم (أبو محمد علي) ، نجم العشراوي (أبو إدريس الفرنسي)، ومحمد أمين بو طهار (أبو عبيدة التونسي). وقد انضمَّ إلى جهاز «الأمنيات»، الذراع الأمنية والاستخباراتية لداعش، والذي كان يتولى مهام تعذيب الرهائن وتنفيذ الإعدامات والتخطيط للعمليات الخارجية.

بعد مغادرته سوريا في أوائل 2014، سافر نموش عبر بلدان في جنوب شرق آسيا، ثم عاد إلى أوروبا حيث نفذ في 24 أيار (مايو) 2014 هجوماً دامياً على المتحف اليهودي في بروكسل، أسفر عن مقتل أربعة أشخاص. وُصِفَ الهجوم حينها بأنه أول اعتداء إرهابي ينفذه مقاتل عائد من سوريا على أرض أوروبية، مما جعله رمزاً مبكراً لظاهرة «العائدين» التي هزّت أمن أوروبا لسنوات. حوكم في بروكسل ونال حكماً مؤبداً وجرى تسليمه إلى فرنسا لاحقاً لمحاكمته على جرائمه التي ارتكبها بحق الصحافيين الفرنسيين.

كشفت التحقيقات أيضاً عن علاقاته مع منفذي هجمات باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 وتفجيرات بروكسل في آذار (مارس) 2016، من خلال اتصالات هاتفية ومراسلات أثناء فترة احتجازه في بلجيكا. وقد تم توقيفه في مرسيليا بعد أيام من الهجوم، وبحوزته الأسلحة المستخدمة في المجزرة نفسها، إضافة إلى ذخيرة ومقاطع فيديو يتبنى فيها العملية باسم تنظيم داعش. أُدينَ لاحقاً في كل من بلجيكا وفرنسا، وتحوّلَ إلى رمز للجهاد العابر للحدود الأوروبية – السورية، مُجسِّداً العلاقة المباشرة بين منظومة التعذيب في سوريا وشبكات الإرهاب في الغرب.

بدا خلال الجلسات ساخراً، متحدياً، غير نادم وغير متعاون، رغم وضوح الصور والتسجيلات التي ظهر فيها بوجه مكشوف وصوت لا يمكن الخطأ بشأن صاحبه. أصرَّ نموش على الإنكار، زاعماً أنه ليس الشخص الظاهر فيها، وصرّحَ بأنه «قتل كثيرين ويتأسف لأنه لم يقتل أكثر». حاول مراراً تحويل قفص الاتهام إلى منبر دعائي إيديولوجي، مُعترِفاً بانخراطه الجهادي، لكنه نفى مشاركته في التعذيب أو حمل كنية «أبو عمر»، رغم أن رهائن سابقين قد تعرّفوا عليه بشكل قاطع. قبل النطق بالحكم، حاول تبرير أفعاله وبدا أنه مقتنع بكل ما قام به فقال: «من خلال الإرهاب حرَّرَ الشعب السوري نفسه من الديكتاتورية، نعم، كنت إرهابياً ولن أعتذر عن ذلك أبداً، لست نادماً على يوم ولا ساعة ولا على أي فعل». في ختام الجلسات، هاجم السياسات الغربية، وعبّر عن نيته في حال خروجه الانضمامَ إلى مقاتلي حماس لمحاربة إسرائيل. نالَ حكماً بالسجن المؤبد، مع فترة حبس الزامية مدتها 22 سنة لا يمكنه خلالها طلب الإفراج المبكر.

2- أسامة العطار، المعروف داخل الأوساط الجهادية بكنية «أبو أحمد العراقي»، أحد أبرز الجهاديين الناطقين بالفرنسية في تنظيم الدولة الإسلامية. وُلدَ في بلجيكا لعائلة مغربية الأصل، وكان قريباً من أخويه غير الشقيقَين إبراهيم وصلاح عبد السلام، المشتبه بهما الرئيسيين في هجمات باريس 2015 وتفجيرات بروكسل 2016. انخرط في الفكر الجهادي في سن مبكرة بتأثير مباشر من الداعية البلجيكي السوري الأصل باسم عياشي، وكان على علاقة وثيقة بابنيه عبد الحق و بدر الدين. انتسبَ إلى معهد العلوم الشرعية «مسجد أبو النور»، ولاحقاً إلى معهد الفتح، والاثنان في دمشق التي مكثَ فيها حوالي السنتين بين عامي 2000 و2002.

بدأت مسيرته الجهادية المبكرة في العراق عام 2004، حيث انضمَّ إلى تنظيم القاعدة، ثم اعتُقل عام 2005 وحُكم عليه بسبب دخوله العراق بطريقة غير شرعية بالسجن المؤبد، قبل أن يتم تخفيض الحكم إلى عشر سنوات. خلال فترة سجنه تنقل بين عدة سجون، سجن أبو غريب، معتقل بوكا ومعتقل كروبر، أقام علاقات وثيقة مع قادة جهاديين بارزين، من بينهم أبو بكر البغدادي وأبو محمد العدناني، ما منحه لاحقاً موقعاً مميزاً في هيكلية تنظيم الدولة.

أُفرج عنه عام 2012 ليختفي بعدها ويتوجه مجدداً إلى سوريا، حيث بات أحد القيادات الأمنية العليا في داعش، وتولّى دوراً محورياً في تنسيق العمليات الخارجية للتنظيم. والإشراف على ملف الرهائن الغربيين في حلب والرقة، كان المسؤول الأعلى عن مجموعة السجّانين الناطقين بالفرنسية والبريطانية، بمن فيهم عناصر خلية «البيتلز» التي نفذت عمليات تعذيب وقتل رهائن أجانب أمام الكاميرا. أفادت شهادات رهائن سابقين بأنه كان يزور مراكز الاحتجاز لإعطاء تعليمات، واستلام أدلة حياة من الرهائن لاستخدامها في مفاوضات الفدية، وأحياناً لتنفيذ عمليات الإعدام أو الإشراف عليها. أكد شهود أنه نفذ شخصياً عملية الإعدام بقطع الرأس بحق الرهينة الروسي سيرغي غوربونوف، وأنه عرض تنفيذ إعدامات بحق رهائن بريطانيين وأميركيين، لكن البغدادي رفض، مُفضِّلاً تنفيذها على يد محمد إموازي المعروف باسم «الجهادي جون»، لأنه يتحدث الإنكليزية. ومع ذلك، لم يُمنع عطار من حضور تلك الإعدامات.

برز اسمه لاحقاً بوصفه العقل المدبر لهجمات باريس وبروكسل، حيث كشفت تسجيلات وتحقيقات استخباراتية أن عبد الحميد أباعود، المنفذ الرئيسي لهجمات باريس، كان يرفع تقاريره مباشرة إلى أسامة العطار. يجسد العطار نموذج «الجهادي الشبحي»: رجل لم يظهر قط في تسجيل مصوّر، نادر الصور، لكنه يقف وراء أكثر الهجمات دموية في أوروبا خلال العقد الماضي، ويجمع بين التخطيط الاستراتيجي، والإشراف المباشر على الجرائم داخل سوريا، والتواصل الخفي مع المنفذين داخل أوروبا، نال حكماً غيابياً بالسجن المؤبد.

3- عبد المالك تانيم: فرنسي من أصول مغاربية، انخرط مبكراً في مسار الجهاد العابر للحدود. غادر فرنسا عام 2012 إلى مصر، ثم دخل سوريا بشكل غير قانوني في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، حيث انضم أولاً إلى جبهة النصرة، ثم بايع تنظيم الدولة الإسلامية في ربيع 2013.

في حلب، أصبح جزءاً من جهاز الأمنيات التابع لداعش. عُيِّنَ مساعداً لأبو عبيدة التونسي، القائد المسؤول عن ملف الرهائن، أظهرته كاميرات المراقبة مسلحاً ويتجول داخل سجن مشفى الاطفال بحرية، وقد ربطته الأدلة بمهدي نموش (الذي أنكر معرفته به)، وبسليم بن غالم، الذي أوكل إليه مهمة تهريب عائلته إلى تركيا في كانون الثاني (يناير) 2014. صمته خلال التحقيق وعدم تعاونه، أثار شكوكاً حول مدى صدقه في ادّعاء التوبة أو الندم. قام المدعي العام بتعداد أكثر من 15 تناقض وكذب في أقواله خلال الجلسات، ثم أخبره «أنت تقوم برمي نفسك إلى الماء مقيد اليدين، أنت لا تترك لنفسك أي فرصة للنجاة». نالَ حكماً بالسجن لمدة 22 سنة.

4- قيس العبدالله: سوري الجنسية، وُصَفَ خلال مُحاكمته في باريس بأنه أحد العناصر البارزة في تنظيم الدولة الإسلامية، ويعتقد أنه كان اليد اليمنى لوالي الرقة أبو لقمان، وكان يُعرَف داخل صفوف التنظيم بلقب «أبو حمزة TNT»، تماشياً مع خلفيته الجامعية وقدرته على تصنيع المتفجرات.

انضم إلى جبهة النصرة ثم داعش بين عامي 2012 و2014، حيث خدم في جهاز الأمنيات في الرقة وانضم من خلاله إلى فرقة «التماسيح»، الأمنية التي نشطت في مدينة الرقة. كان يُشتبه في تورطه بشكل غير مباشر في اختطاف الصحفيين الفرنسيين نيكولا هينان وبيير توريس. حضر اجتماعاً غامضاً قبل أيام من اختطافهما، وادّعى حينها أنه ينتمي للجيش الحر، رغم أن كل الأدلة تُناقِض ذلك وتُظهِر أنه كان بالفعل جزءاً من تنظيم الدولة.

تُظهر الأدلة الرقمية أنه احتفظ في حواسيبه الشخصية -التي أنكر ملكيتها- بوثائق تعليمية عن صناعة المتفجرات، بعضها يحمل شعار داعش، كما عُثر على آثار مواد شديدة الانفجار على جواز سفره. واستخدم صورة قناص من داعش على حسابه في تويتر، وشارك منشورات تمجّد «الخلافة»، بل ونشر عند ولادة ابنه عبارات يدعو فيها الله أن «يحفظه ليكون من أنصار الخلافة المنتخبة كأبيه».

رغم ادعائه بأنه غادر سوريا هرباً من بطش التنظيم، إلا أن تحركاته اللاحقة، بما فيها زيارات متكررة إلى تركيا وظهوره في الرقة بعد مغادرته إلى أوروبا، تناقض روايته. ورغم أن الأدلة لم تثبت مشاركته المباشرة في التعذيب أو تنفيذ عمليات، فإن دوره كمُصنّع متفجرات وعضو في جهاز أمني مسؤول عن الخطف والقتل، جعل منه أحد الركائز التقنية الصامتة في منظومة داعش، وخطراً حقيقياً حتى بعد مغادرته سوريا. في مداخلته الختامية، طلب المدعي العام من المحكمة إنزال العقوبة القصوى بحق قيس العبد الله: 22 عاماً من السجن المُشدَّد، دون أي إمكانية لتخفيض العقوبة. صادقَ القاضي على هذا الطلب، وأصدر حكماً يقضي بسجنه الكامل مع ترحيله النهائي من الأراضي الفرنسية.

5- سليم بن غالم: فرنسي من أصول مغاربية، يُعَدُّ أحد أكثر الجهاديين الفرنسيين شهرة في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية. بدأ تاريخه الإجرامي في سن العشرين، وتضمّن ست إدانات منذ عام 2001، من بينها محاولة قتل. مساره نحو التشدد انطلق من داخل السجون الفرنسية عام 2007، حيث تأثّر بشخصيات بارزة في التيار السلفي الجهادي، قبل أن يغادر إلى اليمن عام 2011 برفقة شريف كواشي (منفذ هجوم صحيفة شارلي إيبدو) للالتحاق بتنظيم «القاعدة في جزيرة العرب». هناك خضع لتدريب عسكري، وكان ينوي تنفيذ هجوم على جامعة أميركية في فرنسا، لكنه غيّرَ مساره متجهاً لاحقاً إلى تونس ثم سوريا.

في آذار (مارس) 2013، دخل سوريا والتحق بدايةً بجبهة النصرة ثم بايع تنظيم داعش، وتحوّلَ إلى أحد جلّادي التنظيم في حلب. تولّى إدارة سجن الشيخ نجّار، وكان من أبرز السجّانين الذين مارسوا التعذيب والإذلال بحق الرهائن الغربيين والسجناء السوريين. ظهر وجهه مراراً في تسجيلات كاميرات المراقبة داخل سجن مستشفى الأطفال في حلب، وكان يحمل السلاح ويتنقّلُ بثقة بين الممرات، مُوجِّهاً التعليمات لغيره من الحراس حول «كيفية ضرب المعتقلين»، وظهر أيضاً في فيديو دعوي من شوارع حلب يدعو الجهاديين في العالم وأوروبا لاستهداف الدول التي يعيشون فيها.

قدّمته شهادات للرهائن الأجانب على أنه «أبو محمد علي الفرنسي»، السجّان الذي شاركهم معظم مراحل اعتقالهم بين حلب والرقة، وكان مسؤولاً عن نقلهم، تعذيبهم، والتحكّم في تفاصيل حياتهم اليومية. كما أكد سوريون كانوا معتقلين وجوده الفعلي في السجن، وأشار بعضهم إلى أنه كان يُصدر أوامر مباشرة بالتعذيب. وهو يتحمّلُ مسؤولية مباشرة، برفقة نجم العشراوي (أبو إدريس)، عن مجزرة سجن مشفى الأطفال التي خلفت 45 قتيلاً.

عام 2014، تولّى سليم منصباً في الشرطة الإسلامية في مدينة الباب، وتورط في تنفيذ عمليات إعدام وقطع رؤوس وصَلْب، حسب وثائق داخلية لداعش وشهادات زوجته «كاهنة هوري»، التي سمعت صرخات المعتقلين ليلاً من مقرّ عمله القريب. في أواخر العام نفسه تم نقله إلى جهاز العمليات الخارجية التابع لداعش في دير الزور، حيث عمل على تجنيد مقاتلين وإرسالهم إلى أوروبا لتنفيذ هجمات. ورغم إعلان مقتله في غارة جوية عام 2017، لم يتم التأكُّد رسمياً من وفاته، ويُحاكَم غيابياً أمام القضاء الفرنسي بتهم تشمل القتل والخطف والتعذيب والانتماء إلى تنظيم إرهابي. في النهاية حَكمته المحكمة غيابياً بالسجن المؤبد المُشدَّد.

لم يكن هؤلاء، وغيرهم، فرادى، ولم تكن قراراتهم نابعة من غريزة سادية فقط. كانوا جزءاً من بنية عسكرية وأمنية داخل تنظيم الدولة، تبدأ من الأمنيين المحليين في حلب والرقة، وتصل إلى الرأس الأعلى المسؤول عن ملف الرهائن: أبو محمد العدناني. معظم المتهمين عملوا بتسلسل: بو طهار، بن غالم، نموش، ثم العطار، ونجم العشراوي في مرحلة لاحقة، حين تحولت إدارة الرهائن إلى وحدة أكثر «احترافية» بقيادة البريطانيين المعروفين بلقب «البيتلز». في المجمل، تم اختطاف 25 شخصاً من الغربيين، جميعهم صحفيون أو عاملون في المجال الإنساني، في مناطق مختلفة من سوريا. أُطلق سراح خمسة عشر رهينة منهم في نهاية المطاف مقابل فدية، خمس رهائن تمّ إعدامهم، أربع رهائن لقوا حتفهم في ظروف غير معروفة.

بنية المحكمة والجو القانوني والسياسي المحيط بها
لم تكن هذه المحاكمة مُجرَّد إجراء قانوني، بل مشهداً مكثّفاً من تعقيدات العدالة الحديثة حين تصطدم بوحشية الجرائم العابرة للحدود، وبقصور الدولة نفسها في مُجاراتها. المحكمة التي نظرت في القضية كانت محكمة الجنايات الخاصة في باريس، وهي هيئة لا تضم محلفين مدنيين كما هو الحال في بعض الأنظمة، بل تتألف من قضاة محترفين فقط، في ما يبدو أنه إجراء متبع في فرنسا في القضايا التي تمسّ الأمن القومي، أو التي تتصف بحساسية استثنائية، كقضايا الإرهاب. هذه المحاكمة التي بدأت رسمياً في 2025، كانت امتداداً لملفّ قضائي فُتح منذ عام 2014، بعد تحرير الصحفيين الأربعة من قبضة التنظيم. ما تلا ذلك كان جهداً استمر أكثر من عقد من الزمن: شهادات، صور، وثائق استخباراتية، تسجيلات، ومطابقات لغوية ووجهية. لكن عشر سنوات من التجميع لم تكن كافية أحياناً لتجاوز تعقيدات التحقيقات العابرة للحدود، المليئة بثغرات اللغة، وتناقض الشهادات، وهشاشة الأدلة الرقمية. ورغم ذلك، في قاعة المحكمة، بدا وكأن الزمن اكتمل.

منذ البداية، أُحيطت المحاكمة بجوّ من التوتر السياسي والإداري، إذ تم تقليص مدّتها من ستة إلى خمسة أسابيع، رغم اعتراض محاميّ الدفاع، الذين رأوا في ذلك إخلالاً بحقوق المتهمين. إلا أن القاضي اعتبر أن خمسة أسابيع كافية، في حين تحدّثَ بعض المطلعين عن عجز في موارد وزارة العدل الفرنسية، سواء من حيث التمويل أو عدد القضاة المتخصصين في قضايا الإرهاب (قيل إنه لا يوجد سوى اثنين من القضاة المختصين في باريس)، ما أجبر المحكمة على ضغط الزمن القضائي.

رغم التحديات، كانت الجلسات علنية، حضرها صحفيون، وممثلو منظمات حقوق الإنسان، وطلاب مدارس، في مشهد غير مألوف في العالم العربي، لكنه جزء من المنظومة التعليمية الفرنسية، التي تدمج زيارة المحاكم ضمن برامج التربية المدنية، تماماً كما يُؤخَذ الطلاب لزيارة المتاحف والمسارح. بعض الطلاب سبق أن شاهدوا الصحفيين الناجين يتحدثون عن تجاربهم، مما جعلهم يحضرون الجلسات ليس فقط كمراقبين، بل كجيل يُربَّى على الذاكرة. الناجون الحاملون للجنسية الفرنسية أو الأوروبية جرى الاعتراف بهم كأطراف مدنية مباشرة، ما منحهم حق التمثيل القانوني، وتقديم طلبات، والترافع. وقد تغيّر وضعي الشخصي، أنا الذي أكتب، من شاهد إلى طرف مدني أثناء جلسات المحكمة، بعد مشورة فريقي القانوني، في خطوة لم تكن رمزية فقط، بل قانونية، تحمي الشهادة وتحفظ كرامتها في وجه أي تشكيك.

بعضُ الوقائع داخل المحكمة أظهرت هشاشة النظام نفسه. فقد تبيّنَ، مثلاً، أن المتهم مهدي نموش احتفظ في زنزانته بملاحظات مكتوبة بخط يده تتضمن معلومات عن الشهود. ورغم أن المحكمة برّرت الأمر بأن من حق المتهمين معرفة الشهادات الموجودة في ملف الدعوى، أثار الاحتفاظ بهذه الأوراق بشكل شخصي داخل الزنزانة قلقاً قانونياً، اعتُبر انتهاكاً غير مباشر لقواعد الحماية. ومن المثير أيضاً أن جميع المتهمين تقريباً حصلوا بطريقة ما على هواتف خلوية أثناء فترة توقيفهم، حتى في سجون يُفترض أن مراقبتها مُشدَّدة. وُجِدَ بحوزة عبد المالك تانيم ستة هواتف مختلفة على مدى أشهر، استخدم أحدها لإجراء أكثر من 200 مكالمة، قال إنها تتعلّق بـ«ألعاب إلكترونية»، وللتواصل مع ابنه الصغير المقيم في تركيا. قيس العبد الله أيضاً احتُجز وهو يمتلك هاتفاً، قال إنه يستخدمه للتواصل مع أسرته، لكن يبقى السؤال: كيف دخلت هذه الأجهزة، ولماذا لم يُكشَف عنها إلّا لاحقاً؟

إحدى المفارقات كانت أن بعض الشهود السوريين رفضوا الحضور خوفاً من الانتقام، رغم أنهم يقيمون في أوروبا، معتبرين أن العودة إلى سوريا لاحقاً قد تُعرّضهم للخطر بسبب هشاشة الوضع الأمني. في إحدى الحالات، استُدعي شاهد عبر الشرطة من مكان عمله بعد أن رفض الحضور طواعية. على الطرف المقابل، المحققون العاملون في وزارات الداخلية والعدل الفرنسية وحدهم حصلوا على حماية خاصة، وأدلوا بشهاداتهم من وراء حجاب، دون كشف هوياتهم، وأُشير إليهم في الملف برموز مُشفّرة.

على الصعيد الدولي، تجلّى الطابع العابر للحدود في المحاكمة من خلال تنسيق أمني وقضائي عالي المستوى بين فرنسا وبلجيكا وألمانيا والولايات المتحدة. بلجيكا زوّدت فرنسا بتفاصيل محاكمة مهدي نموش السابقة، فيما ساعدت ألمانيا في تعقُّب قيس العبد الله. أما الولايات المتحدة، فقد أتاحت جلسات استماع مصوّرة لعنصرين بريطانيين من تنظيم داعش (كوتي والشيخ) سبق أن حوكموا في أميركا عام 2022، وكانا شاهدين مباشرين على جهاز الاحتجاز والتعذيب، وكنت حاضراً وقتها كشاهد في تلك المحاكمة.

في المقابل، لم يكن هناك أي تعاون مع السلطات السورية، لأسباب واضحة تتعلق بفقدان الشرعية والفوضى، ولم يُذكَر أي تعاون مع السلطات التركية، رغم أن زوجة أحد المتهمين تُقيم في تركيا. بل ألمحَ بعض مُحاميّ الادعاء إلى غياب الحماسة التركية بشأن تسهيل شهادات بعض الشهود الذين مرّوا عبر أراضيها.

أَولى الإعلام الفرنسي المُحاكمة اهتماماً لافتاً، خصوصاً في أيامها الأولى والأخيرة. مهدي نموش، الذي كان الأكثر شهرة بين المتهمين، حظي بتغطية واسعة، وساهم في ذلك سلوكه داخل المحكمة، حيث حاول باستمرار تحويل قفص الإتهام إلى منصة دعائية. وقد سبق له أن قال لأحد الرهائن في حلب: «سنلتقي في المحكمة في باريس»، وكأنه كان يخطط لمسرح الظهور الإعلامي منذ البداية. حضور الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند بصفته شاهداً، بدعوة من فريق دفاع نموش، أعطى تغطية إضافية رغم أنه لم يُدلِ بمعلومات جديدة، ورفضَ الإجابة عن أي سؤال بخصوص دفع الفدية. لم يكن حضور هولاند ذا فائدة فعلية، لكنه أضاء المحاكمة إعلامياً مجدداً. ومن الملاحظ أن تغطية الصحافة انخفضت قليلاً خلال محاكمة المتهم السوري قيس العبدالله، لكنها لم تنقطع تماماً. عدد من الصحفيين المتخصصين في قضايا الإرهاب واكبوا الجلسات منذ اليوم الأول، وكانوا دقيقين ومتوازنَين في نقل التفاصيل. لم تكن هناك هيمنة على السردية من الجانب الفرنسي، لكن بحكم وجود أربعة رهائن فرنسيين، طغت أخبارهم بطبيعة الحال على غيرهم. وقد حضرت وسائل إعلام بريطانية وإسبانية أيضاً، بينما غابت وسائل الإعلام العربية، وخاصة السورية، بشكل كامل عن المحاكمة، رغم أن القضية تمسّ سجوناً وأحداثاً وقعت داخل الأراضي السورية، ورغم وجود ناجين وشهود سوريين بين الحاضرين. ربما يعود هذا الغياب لانشغال السوريين بقضايا أكثر إلحاحاً، أو لقلّة تغطية مؤسساتهم الإعلامية لمثل هذا النوع من المحاكمات التي تجري خارج البلاد.

الجانب الإنساني والعاطفي للمحاكمة كان حاضراً بقوة، خاصة في جلسة شهادة عائلة سليم بن غالم. والده ووالدته وأخته حضروا واعتذروا علناً أمام القاضي والضحايا. قالت الأم إنها لا تعرف كيف تحوّلَ ابنها من شاب محبوب إلى جلاد، وإنها تبكي كل يوم عندما تتذكر ما حدث. بعد الجلسة، اقتربت مني شخصياً وسألتني إن كنت أعرف ابنها. أخبرتها، بالعربية الفصحى، أنه كان مسؤولاً عن سجني وتعذيبي، لكنني لا أحمل ضغينة تجاه العائلة. في لحظة عاطفية نادرة، حضنتني مع باقي أفراد العائلة، مشهدٌ مؤثرٌ طغى على تغطيات إعلامية كثيرة في الأيام التالية.

شهادة ناقصة في قاعة مُكتملة
منذ اللحظة التي وطأت فيها قدمي قاعة المحكمة، أدركت ذلك: أنا السوري الوحيد هنا. سألت فريق محاميّ، فأخبروني أنه من المحتمل ظهور شهود سوريين آخرين، لكنني كنت السوري الوحيد الذي تقدم بصفة طرف مدني في القضية. لم تكن العزلة التي شعرتُ بها محصورة في اللغة أو الجغرافيا، بل كانت عزلة سردية، عميقة، ممتدة. كأن ما جرى في سوريا بين عامي 2013 و2017 تحت حُكْم تنظيم الدولة الإسلامية لا يُنظر إليه كقصة قائمة بذاتها، بل كجزء غامض من حكاية أكبر تدور حول الضحايا الغربيين.

في كل مرة أُتيحت لي فرصة الكلام، كنت أتكلم. لا لأقارن، بل لأُضيء على زاوية تُرِكَت مظلمة. تلك السنوات السوداء من عمر الثورة السورية لم تحظَ بكامل حقها في التوثيق أو العدالة. في أوروبا، خضع بعض ضباط النظام للمساءلة، كما في قضيتي أنور رسلان وإياد الغريب في ألمانيا. محاكمات نادرة لكنها موجودة. أما في مواجهة تنظيم الدولة، فكل ما يُلاحَق هم المنفذون الذين اعتدوا على صحفيين غربيين، لا أولئك الذين صَلَبوا السوريين في الساحات.

في قاعة المحكمة الباريسية، لم تكن اللغة عائقاً لي، تحدّثت بالإنكليزية حين لزم، وكان إلى جانبي مترجم طوال الوقت. لكنني أصررتُ أن أدلي بشهادتي بالعربية. أردت أن تُسمَع الكُنى كما نُطقت في الزنازين: «أبو عمر» و«أبو عمار»، لا كما تُقرأ مشوشة بحروف فرنسية. هذه الكُنى ليست تفصيلاً. إنها مفاتيح لذاكرة جماعية، أصوات لا تُنسى، تفاصيل لا تُترجَم. المحامون، القضاة، حتى المترجمون، كانوا عاجزين عن تمييز أسماء أو أماكن لم يُعايشوها. أحياناً كنت أشرح أن مشفى العيون ومشفى الأطفال هما المبنى نفسه، أو أوضح أن من نطلق عليه «الفرنسي» لم نكن نعرف إن كان بلجيكياً أو مغربياً، اللغة التي خاطبنا بها هي ما شكّلَ معرفتنا به، لا جنسيته القانونية.

هذا الغياب السوري لم يكن نقصاً في الأصوات، بل في الإرادة. لم تُطلَب أي شهادة جديدة من سوريين آخرين. شهادتان قديمتان، واحدةٌ منهما لي، مثّلت كل ما سُجّل عن الرهائن السوريين. وكأن العدالة هنا تخص الرعايا الفرنسيين فقط. أما الآخرون، من اختفوا، من ماتوا، من ما زالوا ينتظرون، فوجودهم أو غيابهم سيّان في ميزان المحكمة. ربما لم يكن غياب الشهود السوريين ناتجاً فقط عن إهمال المحكمة، بل عن تعب طويل، وعن شعور مرير بأن لا أحد يصغي، مهما علت الأصوات. إرهاق جماعي ناتج عن تكرار الشهادة مرة بعد مرة، دون أن تتغير النتيجة، ودون أن يأتي الاعتراف الذي يستحقونه.

ومع ذلك، رفضت أن أكون مجرد شاهد يروي ما حدث له وينتظر الأسئلة. كنت أبحث بنفسي عن التفاصيل التي ربما غابت عن الملفات والتحقيقات. كنت أعود كل ليلة إلى الأسماء، إلى التواريخ، إلى الوجوه. تواصلتُ مع سجناء وناجين آخرين، سألتهم عن كل ما قد يكون مفيداً، دققتُ في الذاكرة، راجعتُ الشهادات، بعض الأدلة التي وفّرتُها للمحكمة كانت مُتاحة منذ سنوات على الإنترنت، لكنها ظلت غير مُستعمَلة، ببساطة لأن أحداً لم يبحث عنها بلغتنا. أحد هذه الأدلة كان تسجيلاً، باللغة العربية، لعنصر سابق من تنظيم الدولة، ذكر فيه بالاسم سليم بن غالم «أبو محمد علي»، وربطه مباشرة بمجزرة مشفى الأطفال. تسجيلٌ كان موجوداً على يوتيوب، علناً، دون أن يلاحظه المحققون.

وصل بي البحث أحياناً إلى مُراجعة خرائط غوغل، ومحاولة تحديد أمكنة قد تكون لسجن معمل الأخشاب في المدينة الصناعية. كنت أبحث بين الورش والمعامل، أتواصلُ مع أرقام الهواتف الموجودة على الإعلانات التجارية، واسألهم مباشرة: «هل لديكم قبو؟»، سؤال كان يبدو غريباً لهم، لكنه بالنسبة لي كان خيطاً صغيراً قد يقود إلى ذاكرة مفقودة. لم أصل إلى نتيجة، لكنني لم أتوقف عن المحاولة. محاولاتي لم تتوقف عند جمع الأدلة. تواصلت مع وسائل إعلام سورية، عرضت عليهم تغطية المحاكمة من الداخل، قدمت لهم تفاصيل دقيقة ومباشرة من قاعة المحكمة. لم أتلقَ أي رد. كأن ما يحدث هنا لا يعنيهم، أو كأن المحاكم خارج الحدود لم تعد تستحق اهتمامهم. لم أكن أبحث عن دور أكبر لي. كنت فقط أريد أن لا تبقى هذه المُحاكمة محصورة في رواية واحدة، وأن لا يختفي صوت السوريين مرة أخرى، كما اختفى آلاف المرات قبل ذلك.

سبق أن أدليتُ بشهادتي في محكمة أميركية عام 2022، ضمن قضية «البيتلز»، كمجرد شاهد. يومها، عرفتُ أنني أروي القصة لصالح ضحايا آخرين. أما هنا، في باريس، كنتُ طرفاً مدنياً. كنت حاضراً لا كصوت مساند وديكور بشري، بل كصاحب قصة. لم يكن الأمر شكلياً: لي حق في الاعتراض، في المطالبة، في أن يُعترَف بي كضحية. وهذا الاعتراف، في عالم العدالة، لا يقلّ قيمة عن الحكم نفسه. في واشنطن، حوكم القادة؛ من يظهرون في الفيديوهات ويصدرون الأوامر. في باريس، حوكم المنفذون؛ من مارسوا التعذيب، من قبضوا على الحبال، من حملوا المفاتيح إلى الزنازين. ولأول مرة، رأيت محكمة أوروبية تُمسك بـ«اليد» لا فقط بـ«الرأس».

ما حدث في قاعة المحكمة لم يكن مجرد استعادة قانونية لملف قديم. كان، بالنسبة لي، استعادة لذاكرة غُيّبت طويلاً. أن أجلس هناك، في قلب باريس، وأتكلم بلساني، بلغتي، عن سجون في حلب والرقة، كان كأنني أفتح نافذة صغيرة في جدار طويل من الصمت. لكنّ الشعور الأهم لم يكن في الجلسات، ولا في الأحكام، بل في المقارنة التي لم تغب عن ذهني بين محكمتين فصلتهما ثلاث سنوات وسقوطُ نظام. ما بين المحكمتين، سقط بشار الأسد، وسقط معه حاجزٌ داخلي لطالما خنقَ شعوري بالعدالة. شعرتُ لأول مرة أن صوتي لا يُستخدم لإضاءة قصة أحدٍ آخر، بل لبناء قصتي أنا، قصة بلدي، وناسه، ودمه المسكوب.

ربما لم تكن المحاكمة كاملة. وربما لم يكن الحضور السوري فيها كما ينبغي. لكنني، في النهاية، كنتُ هناك. في المكان الذي يُفترَض أن تُروى فيه القصص، ويُواجَه فيه الجلادون، ويُحكى فيه عن الظلّ لا فقط عن النور. تحدثت باسم من لم يعودوا قادرين على الكلام، وخرجت من القاعة وأنا أعلم أن جزءاً من ذاكرتنا، أخيراً، سُمع. وأن العدالة، ولو تأخرت، يمكن أن تبدأ… من كلمة.

ومع ذلك، بقي شيء ناقص. بقي السوري غائباً. بقيت أسماؤنا تُلَفَّظ على استحياء، وأصواتنا تتردد من خلف الزجاج. تمنيتُ طوال جلسات المحكمة أن تكون شهادتي التالية داخل قاعة محكمة سورية، لا فرنسية. لكن تلك الأمنية بدت، حتى اللحظة، مستحيلة. لا لأننا لم نطالب بالعدالة، بل لأن من يملكون السلاح لا يؤمنون بها، ومن يسيطرون على المحاكم لا يعرفون الفرق بين القانون والانتقام.

سقط النظام، نعم، لكن ميزان العدالة لم يَستقِم، لم يتغيّر شيء جوهري في منطق المحاسبة. المسؤولون الجدد لا يأخذون العدالة على محمل الجد، بل يتعاملون معها كأداة انتقائية، يُلاحَق فيها من لا سندَ له، بينما يُترَك أصحاب النفوذ، والمرتكبون الكبار، خارج دائرة المساءلة. نرى من يُحاكَم لأنه سرق، أو لأنه أبدى اعتراضاً بسيطاً، بينما يفلت من ارتكب جرائم ضد الإنسانية باسم الثورة أو الدين أو «الشرعية». في هذا الواقع، تتحول العدالة إلى وهم، تُمارَس فيها المحاسبة كاستعراضٍ للقوة، لا كبحث عن الحقيقة أو إنصافٍ للضحايا.

مقالات مشابهة

Continue Reading

Previous: عراقيو دمشق والسؤال عن المنطقة والطائفة (4) تقارير عربية دمشق عثمان المختار…المصدر:العربي الجديد
Next: اتصال ترمب – بوتين وفرص السلام الأوكراني كون كوخلين…….المصدر: المجلة

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

تركيا وليس إسرائيل.. تحوّل استراتيجي في مقاربة واشنطن للملف السوري علي أسمر…..المصدر: تلفزيون سوريا

khalil المحرر يونيو 6, 2025
  • مقالات رأي

بيان من أجل الديمقراطيين مضر رياض الدبس……..المصدر: تلفزيون سوريا

khalil المحرر يونيو 6, 2025
  • مقالات رأي

قدر الحدود التركية ـ السورية سمير صالحة……..المصدر: تلفزيون سوريا

khalil المحرر يونيو 6, 2025

Recent Posts

  • “المطلوبون أصبحوا السلطة في سوريا”وقوانين الأسد ما تزال تحكم السوريين….المصدر: تلفزيون سوريا ـ وفاء عبيدو
  • تركيا وليس إسرائيل.. تحوّل استراتيجي في مقاربة واشنطن للملف السوري علي أسمر…..المصدر: تلفزيون سوريا
  • بيان من أجل الديمقراطيين مضر رياض الدبس……..المصدر: تلفزيون سوريا
  • أول كشف حساب يُقدّمه رئيس عربي منهل عروب………المصدر: تلفزيون سوريا
  • قدر الحدود التركية ـ السورية سمير صالحة……..المصدر: تلفزيون سوريا

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • “المطلوبون أصبحوا السلطة في سوريا”وقوانين الأسد ما تزال تحكم السوريين….المصدر: تلفزيون سوريا ـ وفاء عبيدو
  • تركيا وليس إسرائيل.. تحوّل استراتيجي في مقاربة واشنطن للملف السوري علي أسمر…..المصدر: تلفزيون سوريا
  • بيان من أجل الديمقراطيين مضر رياض الدبس……..المصدر: تلفزيون سوريا
  • أول كشف حساب يُقدّمه رئيس عربي منهل عروب………المصدر: تلفزيون سوريا
  • قدر الحدود التركية ـ السورية سمير صالحة……..المصدر: تلفزيون سوريا

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • دراسات وبحوث

“المطلوبون أصبحوا السلطة في سوريا”وقوانين الأسد ما تزال تحكم السوريين….المصدر: تلفزيون سوريا ـ وفاء عبيدو

khalil المحرر يونيو 6, 2025
  • مقالات رأي

تركيا وليس إسرائيل.. تحوّل استراتيجي في مقاربة واشنطن للملف السوري علي أسمر…..المصدر: تلفزيون سوريا

khalil المحرر يونيو 6, 2025
  • مقالات رأي

بيان من أجل الديمقراطيين مضر رياض الدبس……..المصدر: تلفزيون سوريا

khalil المحرر يونيو 6, 2025
  • منوعات

أول كشف حساب يُقدّمه رئيس عربي منهل عروب………المصدر: تلفزيون سوريا

khalil المحرر يونيو 6, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.