لم تعد دمشق تضم أعداداً كبيرة من العراقيين كما كان الحال عليه بين عامي 2003 و2011، فالعدد الحالي لا يتجاوز بضعة آلاف من الأسر، موزّعين على مناطق مختلفة، وغالبيتهم ممن يقيم منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ولظروف وأسباب مختلفة ظل أكثرهم هناك، بينها الأمل بظهور أسمائهم ضمن قوائم اللجوء الذي ترعاه الأمم المتحدة بالتنسيق مع دول غربية وأوروبية، وأخرى تتعلق بالعمل أو كونهم مُلاحقين من النظام الجديد في بلادهم. وعلى خلاف مواطنيهم في إدلب وريفها، يواجه عراقيو دمشق سؤالاً بات متوقّعاً بالنسبة لهم، بعد معرفة هويتهم العراقية، وهو ذكر اسم المنطقة التي يتحدرون منها بالعراق، بعد إشهار هويتهم الوطنية طبعاً، في مراجعتهم الدوائر والمؤسّسات العامة، وحتى على مستوى التعاملات اليومية، بدءاً من حواجز التفتيش، ووصولاً إلى محال التبضّع والحلاقة وسائقي التاكسي، حيث اللهجة العراقية التي يصعب على أهلها إخفاء مخارج حروفها. وليس هذا السؤال ساذجاً، إذ يخفي “خبثاً” غايته معرفة الطائفة أو حتى تلمّس الموقف السياسي.
عراقيو دمشق والأسئلة الدخيلة
يقول أبو أحمد القيسي، وهو عراقي خمسيني، ويقيم في دمشق منذ 2004 مع زوجته السورية وأولاده الذين لا يجيدون الكثير من اللهجة العراقية إلا ما يسمعونه من أبيهم، إن سؤال المنطقة بعد معرفة أنه عراقي، “من الأسئلة الدخيلة” على المجتمع السوري، سواء للعراقي أو اللبناني أيضاً، وينبغي لهم عدم الوقوع به وعليهم الترفّع عنه. ويضيف لـ”العربي الجديد”: بعضهم يسأل عن أي منطقة في العراق لمعرفة الهوية الطائفية، وعلى أساسه قد يكون التعاون أو التعامل”، معتبراً هذا التصرف “مؤذياً، رغم درايتنا أنه من تراكمات السنين الماضية”.
وينحدر القيسي من بغداد المُختلطة طائفياً ودينياً وعرقياً، وهو ما يزيد حيرة بعضهم وفضولهم عند إجابته لهم أنه من بغداد، فيذهب إلى فتح مواضيع سياسية أو أسئلة مباشرة عن القبيلة “لفهم من أي الأطياف العراقية أنا”، بتعبيره. ويوضح القيسي أن هذا الفعل الذي جاء بعد إسقاط نظام بشار الأسد في سورية “دخيل على الشعب السوري، ويجب تجاوزه، لأنه قد ينسحب لاحقاً على الداخل السوري، وليس الخارج المجاور له”.
أبو أحمد القيسي: البعض يسأل عن أي منطقة في العراق لمعرفة الهوية الطائفية، وعلى أساسه قد يكون التعامل
لكن جاره نائل الخياط (55 عاماً) الذي شارك الحديث عند باب العمارة التي يقيم فيها القيسي في منطقة كفرسوسة في دمشق، يرى أن الحالة انعكاس لمواقع التواصل الاجتماعي والأخبار السلبية التي يتم بثها. ويقول لـ”العربي الجديد”: “ليس كل الشوام (أهل الشام) يسألون، وبعضهم لم يعد يهتم حتى بجاره وخلفياته الثقافية أو الدينية، لكن ما جرى في السنوات الأخيرة أن سوريين كثيرين لم يعودوا يرون من العراقيين إلا الجانب السلبي المتمثل بالجماعات المسلحة، ودعم النظام، فصار يتبادر إلى الذهن بشكل مباشر أن هناك حاجة لمعرفة مع أي العراقيين أتعامل، مع مؤيدي الثورة أو مؤيدي نظام الأسد”. يبتسم الخياط مع جاره العراقي الذي يقول إنه “أخرس أطرش”، وهذا جعله في مأمن طوال السنوات الماضية.
توضح العراقية سعاد جاسم العزاوي (49 عاماً) لـ”العربي الجديد” أن السؤال ظهر أولاً من عناصر في جهاز الأمن العام الجديد، وهو لا يختلف عن سبب السؤال نفسه الذي كان يواجهه العراقيون الوافدون إلى سورية في السنوات الأخيرة من عُمر النظام، لمعرفة وضعهم أمنياً وموقفهم من النظام. وتضيف أنها “تشعر بشيء من التحقير”، عند سؤالها بعد معرفة أنها عراقية، من أي منطقة تنتمي أو تنحدر، بينما في عشيرتها من السنّة والشيعة، وهي من محافظة كركوك التي تضم عرباً وأكراداً ومسلمين من الطائفتين ومسيحيين وتركمانيين. وتجد العزاوي أن “قسماً من عناصر الأمن الجدد لا يدركون أن العراق لا يمكن اختزاله بمليشيا أو موقف سياسي من حزبٍ ما، وأن من الضرورة الكبيرة التعامل مع العراقي بوصفه جاراً عربيّاً، وقبل كل شيء، ضيفاً في هذه البلاد”.
في مخيم إكده بسورية (عامر السيد علي)
تقارير عربية
محنة العراقيين في إدلب: لاجئون من الدرجة الثانية (3)
مبررات أمنية أم طائفية؟
ليس السؤال عن المنطقة بعد تقديم الانتماء العراقي غريباً عن عراق ما بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، واستعملته داخلياً السلطات الأمنية، الجيش والشرطة، ثم المليشيات والتنظيمات الإرهابية المتطرّفة، وهو سؤال يصفه الباحث العراقي أحمد النعيمي بأنه “طائفي منمّق، بديل عن سؤال الطائفة، لكن استعماله مع العراقيين في الخارج مؤذٍ لهم في غربتهم”. ويقول لـ”العربي الجديد” إن “الشعب السوري، لم ير خلال الـ14 سنة الأخيرة من المشهد العراقي غير المليشيات الداعمة للنظام والإعلام الموجّه ضد الثورة، أو المتبنّي للرؤية الإيرانية، وهذا ما أدّى إلى بروز هذه الظواهر. وعلى الإدارة السورية أن توعّي أفراد الأمن لديها بأن أسئلة كهذه غير قانونية”.
محمد الحموي: المجتمع السوري بطبيعته شعب غير طائفي، والعودة إلى هذا الوضع الطبيعي يجب أن تبدأ
من جهته، يقول الباحث السوري محمد الحموي، لـ”العربي الجديد”، إن مبرّر السؤال قد يكون أمنياً، لكن من المهم القول إن المجتمع السوري، بطبيعته، شعب مدني، غير طائفي، والعودة إلى هذا الوضع الطبيعي يجب أن تبدأ، ولو تدريجياً. ويقرّ بأن “الضخ الإعلامي الذي رافق تغطية السنوات الماضية من الثورة السورية كان يستخدم الهويات الوطنية في تسمية كثير من الجماعات والمليشيات التي دعمت النظام، وهذا لم يكن موفقاً، وبسبب تفاوت فهم الناس تولّدت صور سلبية وغير صحيحة عند كثيرين من بسطاء التعليم، خصوصاً الجيل الذي تصدّر بعد الثورة”.
لكن العراقي ياسر العبيدي الذي يُقيم في دمشق منذ 2009، يؤكد أنهم لا يواجهون هذا السؤال بسبب اندماجهم مع المجتمع السوري هناك، وعدم تمييزهم بأنهم غير عراقيين، إلى جانب أنهم لم يسافروا، فلم يحتكّوا بحواجز التفتيش أو الأمن. ويقول لـ”العربي الجديد” إن “السؤال عن المنطقة لم يعد للعراقيين فقط، بل لجنسيات أخرى، وهو من الأسئلة الارتجالية لعناصر الأمن الجديدة، يُفهم أنها بمثابة فحص أمني سريع. وفي المحصلة، يُمكن لأي عراقي الادعاء أنه ينتمي لأي مدينة من دون معرفة الآخر صحة ذلك من عدمها”. ويأمل العبيدي “تجاوز هذه الأسئلة لأنها تُرسّخ حالة سلبية في سورية الجديدة”.