ملخص
في ذكرى رحيله العاشرة، يطل علينا الشاعر محمد الفيتوري (1936-2015) حاضراً في الضمير الجمعي وفي المشهد الإبداعي على السواء. هذه الحيوية المستمرة هي كلمة السر في تجربة شاعر النضال الأفريقي والعربي، الزنوجي والقومي. وهي حيوية تتنوع مقوماتها الإنسانية والجمالية، وبقدر قوة دفعها ودفقها يظل الفيتوري نبضاً فاعلاً وصوتاً معاصراً ومؤثراً في الأجيال الحالية، على رغم التحفظ على بعض نصوصه التي كتبها في ظروف وملابسات شخصية خاصة.
لماذا يظل محمد الفيتوري شاعراً معاصراً وكياناً حاضراً ليس فقط في أروقة الذاكرة، بل وفي الوجدان النابض؟ سؤال تتشعب إجابته بطبيعة الحال، بتشعب مسارات الشاعر نفسه، حياتياً وإبداعياً، وتعدد محطات تجربته الزاخمة وتشابكاتها، وتنقلاته المتتالية بين العواصم العربية مشتتاً ومنفياً ومعارضاً، إضافة إلى تنوع القضايا الفردية والجماعية التي حلقت بها قصائده في فضاء الهم البشري الواحد والقيم العالمية المشتركة.
إلى أكثر من بلد يمكن أن ينتمي الفيتوري بصورة مباشرة، فهو السوداني بحكم المولد والانتماء، وهو الليبي وفق الجذور وبطاقة الانتساب التي منحها له الرئيس معمر القذافي بعدما أسقط عنه نظام الرئيس جعفر نميري الجنسية السودانية عام 1974، وهو المصري بفضل النشأة والإقامة في الإسكندرية والقاهرة والتعليم في المعهد الديني والتخرج في كلية العلوم بالأزهر الشريف والعمل في الصحف المصرية وجامعة الدول العربية، وهو المغربي بحكم عزلته الأخيرة ووفاته وحيداً مكلوماً في مدينة الرباط.
تتوسع دائرة انتماءات الفيتوري أكثر من ذلك، وفق الشؤون الجوهرية المعني بها في شعره، فهو المنتمي إلى الزنوجة كوجه للهوية الأفريقية الحرة، والمنتفض ضد التمييز العنصري والعرقي واللوني، كما في مجموعاته الشعرية “أغاني أفريقيا” و”عاشق من أفريقيا” و”اذكريني يا أفريقيا” و”أحزان أفريقيا” وغيرها. وهو ابن العروبة والحماسة والاستقلال والقومية العربية كما في أعماله “البطل والثورة والمشنقة” و”ابتسمي حتى تمر الخيل” و”ثورة عمر المختار” وغيرها. وهو المدافع عن فلسطين في نكباتها ومقاومتها، وهو المنكسر في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) 1967، الذي يرثي جمال عبدالناصر بقوله “الآن وأنت مسجى/ أنت العاصفة، الرؤيا، التاريخ، الأوسمة، الرايات/ الآن وأنت تنام عميقاً، تسكن في جنبيك الثورة، ترتد الخطوات/ تعود الخيل مطأطئة من رحلتها، مغرورقة النظرات”.
امتد قلم الفيتوري الذي “ولد فوق عتبات الصمت والغضب”، ليكسر هذه النطاقات المحلية والقارية والعروبية والإقليمية أيضاً في إبداعه، متخطياً “الزنجي الذي في داخله”، ليقدم نموذجاً للشعر الملتزم قضايا الإنسان في كل زمان ومكان، الواقف على ميزان العدالة، المشحون بالصرخات المدوية ضد الظلم والتهميش والعبودية بشتى أشكالها “يا أخي في كل أرض وجمت شفتاها/ قم تحرر من توابيت الأسى”. هذا العمق في تلمس القيمة، واتساع الرؤية لتشمل الكون كله، أصبحا سمة في كثير من الشعر الذي يكتبه الشباب اليوم، في ظل الثورة التكنولوجية والاتصالاتية وارتفاع أسهم الخريطة الإنسانية العامة والمفاهيم الكونية على حساب القضايا المحلية والمصالح الخاصة الضيقة.
مختارات من إنتاجات الشاعر محمد الفيتوري (اندبندنت عربية)
الانفلات وتخطي السقطات
جمالياً وفنياً وتعبيرياً، ولعل هذا هو الأهم، لم تكن تجربة محمد الفيتوري الشعرية لتعبر الحواجز إلى ما بعد غيابه بـ10 أعوام لولا أن التمرد في هذه التجربة لم يقف عند مجرد قرع الطبول الغاضبة ونظم الخطابيات الاعتراضية، شأن غيره من الشعراء الذين ترجموا ثورتهم وغضبهم وسخطهم إلى بيانات زاعقة وإنشاديات منبرية. جاء تمرد الفيتوري على مستوى ماهية القصيدة ذاتها، وبنيتها، وصورها، وأخيلتها، وموسيقاها، وانزياحها الخاص عن السائد، وذلك بالتوازي مع معاني الاحتجاج والمعارضة والتمرد والانفلات والحرية في مضمونها أو موضوعها أو عنوانها اللفظي الذي تحمله، والذي يجعلها دائماً سجلاً للذاكرة التاريخية الشعبية، وراية للهوية الثقافية والحضارية.
لا شك في أن المباشرة قد نالت في بعض القصائد من كفاءته الشعرية والتخييلية وقدرته العالية على توظيف الرمز والصورة، خصوصاً في تلك النصوص والمواقف المناسباتية والظرفية التي كان يتبنى فيها شعارات سياسية أو آراء اجتماعية أو يرفع فيها لافتات حادة “أنا أسود، أسود لكني حر، أمتلك الحرية/ أرضي أفريقية/ عاشت أرضي، عاشت أفريقية”. وتضاف إلى ذلك مدائحه الفجة للقذافي، التي كتبها في ملابسات وظروف شخصية خاصة، ولم تسلم هذه السقطات (الجمالية في الأقل) من انتقادات واسعة بالطبع. ولكن الفيتوري لم يقع كثيراً في ذلك الفخ، ولم يستغرق طويلاً في الوضوح الشديد متناسياً مشروعه الأصلي القائم على المغايرة في الطرح، والتكثيف اللغوي، وتوظيف الرموز والأساطير المستوحاة من التراث الأفريقي والعربي، والحساسية الصوفية في الاستشعار والإدراك والقول “في حضرة من أهوى، عبثت بي الأشواق/ حدقت بلا وجه، ورقصت بلا ساق/ وزحمت براياتي وطبولي الآفاق”.
وكواحد من الشعراء المفصليين أسهمت تجربة محمد الفيتوري الشعرية في ما مرت به القصيدة العربية من تحولات كبرى، من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، ومن الغنائية التقليدية والنزعة الرومانسية السلبية إلى معترك الحداثة، ومن القضايا المحدودة إلى الوعي الإنساني العميق، المفتوح على طبقات الذات الفردية، وعلى أزمات المجتمع البشري ككل أينما كانت “يا أخي في الشرق، في كل سكن. يا أخي في الأرض، في كل وطن/ أنا أدعوك، فهل تعرفني؟/…/ إنني مزقت أكفان الدجى/…/ لم أعد مقبرة تحكي البلى، لم أعد ساقية تبكي الدمن”.
آسيا رائدة المسرح السوداني وزوجة الفيتوري ضحية للحرب
حافظ الفيتوري على الإيقاع القوي المتجسد خارجياً في التفعيلة الخليلية، مع خروجه إلى آفاق أكثر تحرراً من ناحية البنية والمحتوى والموسيقى الداخلية والإيقاع النفسي والطقسي. وحرص بسلاسة على الاقتراب من لغة القارئ العادي، من دون التنازل عن الفنيات اللغوية الرفيعة، ومن غير الاستغراق في البلاغيات التي تعرقل تدفق القصيدة.
وإلى جانب تأثيره في شعراء المقاومة في فلسطين وأقطار شتى بتحويل القصيدة إلى شظايا نارية ووجودية، فقد شكل الفيتوري بنقده التاريخ الاستعماري والعنصرية والتمييز العرقي إلهاماً بارزاً لتلك الحركات والمدارس والنظريات ما بعد الكولونيالية، ومهد الطريق أمام ما يسمى اليوم أدب الأقليات أو شعر الهويات المركبة. ويضاف إلى ذلك فتحه المجال للكتابة بالروح الأفريقية الصحراوية التي تعاني التهميش والشتات والاغتراب، ومزجه بين الزنوجية العربية والأفريقية في ما يمكن وصفه بشعر التاريخ المطمور أو الشعر المناهض للمركز.
ومثل هذا الشعر، الذي يقاوم الخفوت ويتحدى الذبول على مر الأعوام والأجيال، هو جريء دائماً في طرحه وثوريته، ينحاز إلى العاديين والمغبونين والمقهورين، ولا يخشى مواجهة السلطة، ويقدم على تفنيد الرجعيات الفاسدة والوضعيات المتردية أملاً في تجاوزها “دعونا ندس في خطى الهاربين إلى اليأس، أقنعة اليأس والانكفاء/ دعونا نقل للملوك الخطاة الزناة، وللحاكمين الذين أباحوا لأنفسهم حرمات الإله: أقيموا جثامينكم فوق تلك العروش، وغطوا خرائب تاريخكم بالنقوش، وصفوا على الشرفات أكاليلكم/ واعلموا أيها الأقوياء/ أنكم مثل قطرة غيم، معلقة في سقوف الشتاء”.