آن لسوريا أن تستريح
كان يكفي أن أقرأ النزر اليسير ممّا كتب عن أحمد الشرع، لأعلم أنه الشخص القادر على إخراج سوريا والسوريين من وضع مأساوي وصلت إليه البلاد. كان هناك شيء في كلماته يوحي بالأمل، بتغيير قادم لا يشبه أياً مما سبق، وبمرحلة جديدة لا تحكمها الدكتاتوريات القديمة ولا تقودها المصالح الضيقة. كانت رؤيته تتجاوز مجرد إسقاط نظام، كان يبحث عن سوريا أكثر عدلًا، أكثر تصالحًا مع ذاتها، وأكثر قدرةً على استعادة مكانتها الطبيعية في العالم.
عندما حذّر الآخرون من مستقبل مظلم، وتحدثوا عن مجازر متوقعة وأعمال ثأر وانتقام، كنت على يقين أن الحل بات قريبًا، وأنه سيأتي على أيدي الشرع وأصدقائه. المعارضة، كما أتباع النظام، كانت تتوقع مشهدًا أكثر دموية وتتحدث عن مجازر ستشهدها منطقة الساحل السوري، لكن ذلك لم يحدث. لم نشهد مذابح جماعية، ولم نرَ عمليات انتقام منهجية، باستثناء بعض الأحداث المعزولة التي أراد من خلالها بعض رجال النظام السابق بث الرعب بين الناس، في محاولة يائسة منهم لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
◄ أياً كان القادم فإن سوريا تستحق أن تُمنح فرصة للشفاء. فرصة لا تعتمد على القوى الخارجية بقدر ما تعتمد على قوة أبنائها وإرادتهم الحقيقية في إعادة بناء وطنهم
خمسة عقود انقضت منذ أن غادرت سوريا، لكنني لم أقطع صلتي بها. كنت أتنفسها في الأخبار، في القصص القادمة من دمشق وحلب واللاذقية. رحلتي الطويلة لم تمحُ الذكريات التي صنعتني، ولم تُنسِني الطرق التي مشيتها، والحواري التي كانت وجوه الناس فيها مألوفة. لقد عبرت سوريا كلها، من الساحل السوري إلى سهل الغاب وحمص وتدمر ودمشق، إلى جبل العرب والجزيرة، سيرا على الأقدام، هذا كان كافيا لأدرك أن هذا البلد يستحق أفضل من آل الأسد ليحكموه. سوريا، بتاريخها وثقافتها ومزيجها البشري الغني، تستحق أن تكون دولة يعيش شعبها بكرامة، دون أن يكونوا رهينة للأهواء السياسية والمصالح الضيقة.
في 9 ديسمبر 2024، كتبت مقالا تحت عنوان “آن لسوريا أن تستريح” قائلا “كل شيء غامض عن ماضي أحمد حسين الشرع وحاضره ومستقبله؛ ماذا يخفي هذا الشاب الأنيق الذي يتحدث بهدوء عن التسامح والمصالحة، ويحذر من ممارسة أعمال انتقامية، ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات؟”
في ذلك اليوم، بدأتُ أرى بوضوح أن شيئًا ما يتغير في المشهد السوري، وأن سوريا تقترب من واقع جديد قد يحمل معه ملامح المستقبل الذي كان يحلم به الملايين من أبنائها. وفي اليوم التالي، كتبتُ مقالًا تحت عنوان “أحمد الشرع رئيسًا لسوريا.. لمَ لا!”
العالم كان قد فهم، بما فيه الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، لماذا غادر 12 مليون سوري بلادهم، ولماذا عبروا البحر بقوارب متهالكة، مضحين بأرواحهم.
اللقطات القادمة من سوريا كانت صادمة؛ أنفاق سجن صيدنايا وجدرانه الإسمنتية المسلحة، المصممة لحجب الضوء، زُج خلفها النساء والأطفال والشباب في مشاهد لا يمكن تخيلها حتى في أفلام الرعب. ومع صور المعتقلين المحررين، ظهرت دموع السوريين الذين حُرموا من دخول بلدهم لسنوات طويلة. أعادت تلك اللحظات والمشاهد تعريف العالم بالقضية السورية، وأجبرت القوى الكبرى على إعادة النظر في إستراتيجياتها تجاه هذا البلد المنهك.
الكلمة التي ألقاها الرئيس الأميركي السابق جو بايدن حول سوريا لم تكن مجرد خطاب سياسي معتاد؛ كانت نتيجة متابعة دقيقة لمشاهد صدمت الجميع. لقد فهم العالم، بما في ذلك واشنطن وبروكسل، أن سوريا تعيش مأساة تجاوزت في قسوتها كل التوقعات، وأنه لا يمكن الاستمرار في التعامل معها وكأنها مجرد ملف أمني أو سياسي هامشي.
ما لم يقله بايدن مباشرة لأحمد الشرع، قاله مواربة؛ الإدارة الأميركية ستعيد النظر في الحكم الصادر، لقد رأينا ورأى العالم ليس ما يكفي فقط لإصدار حكم البراءة، بل لتوجيه الشكر إليك. لقد فهمنا الآن أنك ومن معك قاتلتم من أجل قضية إنسانية حقيقية، ونعتذر إن كنا يومًا قد أسأنا الحكم على دوافعكم. ولكن، لنا عذرنا في ذلك، لم نكن ندرك حجم المعاناة التي عاشها السوريون لأكثر من نصف قرن. رغم ذلك، ما زلتم قادرين على المسامحة والنسيان.
منذ يومين، 7 يونيو 2025، شهد مجلس الشيوخ الأميركي صدور قرار تاريخي؛ إزالة اسم سوريا من قائمة “الدول المارقة”، وهو مؤشر واضح على رغبة واشنطن في فتح صفحة جديدة مع دمشق. وفقًا للبيان الصادر عن البيت الأبيض، فإن القرار جاء بدعم واسع من أعضاء مجلس الشيوخ، وأشار إلى أن سوريا لم تعد ضمن القائمة التي تضم إيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا.
◄ العالم كان قد فهم، بما فيه الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، لماذا غادر 12 مليون سوري بلادهم، ولماذا عبروا البحر بقوارب متهالكة، مضحين بأرواحهم
يُذكر أن الولايات المتحدة صنّفت سوريا كدولة راعية للإرهاب منذ عام 1979، ما فرض قيودًا مشددة على المساعدات الخارجية، وحظرًا على صادرات الدفاع، بالإضافة إلى تضييق مالي خانق. ومن جهته، وصف المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، موقف واشنطن تجاه سوريا بأنه “مفعم بالأمل”، مؤكدًا أن رؤية الإدارة الأميركية ليست فقط إيجابية، بل قابلة للتحقق.
الآن، أعود لأكرر ما قلته في المقال الذي نشرته يوم 10 ديسمبر 2024 “لا أعلم إن كان أحمد الشرع، أو كما يعرفه البعض، أبومحمد الجولاني، سيتقدم ليرشح نفسه لمنصب الرئاسة في سوريا عندما يحين الوقت. لكن، ما أعلمه هو أنني في حال ترشحه للمنصب سأكون حريصًا جدًا على أن يكون الشخص الذي أمنحه صوتي.”
هذا التصريح لم يكن مجرد انحياز شخصي، بل كان يعكس واقعًا جديدًا بدأت سوريا تقترب منه. في النهاية، التغيير في سوريا لن يكون مجرد خطوة سياسية، بل هو عملية طويلة من المصالحة وإعادة بناء الوطن. سوريا، التي عانت لعقود، تحتاج إلى قيادة تُعيد لها كرامتها، قيادة تفهم أن المستقبل لا يُبنى على الانتقام بل على الحوار، ولا على العنف بل على إعادة إحياء الأمل.
قد يكون أحمد الشرع أحد أولئك الذين يمكنهم تغيير المسار، أو ربما يكون جزءًا من لحظة تاريخية تُعيد تشكيل سوريا من جديد. أياً كان القادم، فإن سوريا تستحق أن تُمنح فرصة للشفاء، فرصة لا تعتمد على القوى الخارجية بقدر ما تعتمد على قوة أبنائها وإرادتهم الحقيقية في إعادة بناء وطنهم. وهذا هو التحدي الأكبر الذي ينتظرها.
إلى أن يحين ذلك الوقت، ها هي سوريا تفتح أبوابها، وتقول للجميع: هذه سوريا ادخلوها آمنين.