تحدث القصص في مجموعة “نحر الغزال” (دار المتوسط) للكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب في أمكنة وفضاءات وظروف غير واقعية أو في ظروف غريبة على الأقل. هذا ما يشعر به القارئ ما أن يبدأ بالقراءة، وهذا ما تريده المؤلفة أيضًا، فهي تتعمّد إبعاد نصوصها القصصية عن الكثير مما اعتاد عليه القارئ.

الذهاب إلى منطقة سردية وأسلوبية غير اعتيادية هو توصيف ضروري ومستحق لهذه المجموعة. من دون هذا التوصيف (قد) يصعب على القارئ (القارئ المتعجل خصوصًا) أن يُكمل القراءة. هذا التوصيف يتكفّل بمنح القارئ بعض الصبر كي يستمر، وكي يتأكد، مع كل قصة يُنهيها، أن هناك عالمًا كاملًا تنتمي إليه هذه القصص. عالم يتمُّ فيه خلط الواقع بالخيال، وتتم روايته بطريقة غير منطقية أحيانًا، وبطريقة تشبه قصص الأطفال الخرافية أحيانًا أخرى. في الحالتين، سيكون على القارئ أن يبذل جهدًا للتأقلم مع هذا العالم وتصديق ما يحدث فيه، والاقتناع بالشخصيات الغرائبية التي تعيش فيه والحوادث الغريبة التي تحصل فيه أيضًا.

والحقيقة أن القارئ يشعر بنوع من الضّيق وعدم الراحة مع أول قصتين أو ثلاث في المجموعة، ففي القصة الأولى، على سبيل المثال، التي تحمل عنوان “العمياء” ينتهي الأمر ببطلتها التي تعاني من حرقة في عينيها نهارًا إلى الانقطاع عن العمل والبقاء في المنزل والخروج فقط في الليل. تتحول إلى “كائنة ليلية”، قبل أن تقرر الكاتبة أن يغيّر زوجها قفل الباب، ويهاجر مع أطفالهما!. ورغم أن أمها تدعوها إلى السكن عندها، إلا أن ما يحدث أنها تجد منفذًا للتسلل إلى منزلها. تبقى فيه نهارًا، وتقضي الليالي مشرّدة في الخارج، ترافق الكلاب الليلية المتجولة وتأكل من نفايات المطاعم، وفي النهاية يتم قتلها على أنها “ضبع”! وفي القصة الثالثة “أبناء النهر” تروي الكاتبة ما يشبه هجرات اللاجئين، حيث يغرق البعض ويصل البعض ناجيًا إلى الضفة الأخرى. ولكن التفاصيل تتعرّض دومًا لضربة من الغرابة، فبطل القصة اسمه “فتى”، وهي صفة عمرية وليست اسمًا طبعًا، أما عنوانه الذي يعطيه لمستقبليه على الضفة الأخرى فهو: “الجرف الثالث بعد المئة، يمين مغارة النساك، بلاد الصاد”!.
الغرابة ليست موجودة فقط في هذه الأمثلة، بل تكاد تسري في جسم القصص كلها. إنها أسلوب ومزاج شخصي في الكتابة. أسلوبٌ تجرّب فيه الكاتبة أن تكتب قصصًا لا تلتحق فورًا بما هو شائع ومعروف عن القصة.

هكذا يشعر القارئ أن عليه أن يبذل جهدًا إضافيًا كي يكمل، بل يشعر أحيانًا بأن السرد أو طريقة السرد تمنعه من الاندماج مع عوالم هذه القصص، وتؤخره عن الشعور بمتعة القراءة أو حتى التسلية، قبل أن يكتشف مع استمرار القراءة، أن هذا السرد، في الواقع، يدعوه إلى اندماج من نوع آخر، ومتعة من نوع آخر، صعبة وغير مسلية. ويطلب منه أن يُبدي استعدادًا من نوع آخر لتذوق هذا السرد، وتقبّل عوالم وأحداث وتفاصيل ما يحدث في القصص. وأغلب هذه الأحداث لا تشبه الأحداث العادية، إذْ غالبًا ما تحدث في حالات شرطية معينة وفي أمكنة تبدو أيضًا مقيدة بهذه الشّرطية. القصد أن هذا النوع من الأحداث لن يحدث بيسر وسهولة في الواقع العادي، وأن الشخصيات ذاتها لا يمكننا اللقاء بها في حياتنا العادية. الشرطية هنا هي كما في “المسرح الشَّرطي”، حيث تتطلب الأحداث والشخصيات أيضًا أن تكون محملة بشيء من الغرابة أو التغريب، وأن تعيش في “مسرح” لا يشبه مسرح الحياة العادية. هناك طبعا تفاصيل كثيرة في قصص بسمة الخطيب تُذكّرنا بالحياة العادية، ولكن هذه التفاصيل مُطالبة الآن بأداء إيحاءات مختلفة، وبجعل أبطال القصص نفسها يبدون ليس وكأنهم ليسوا في أماكن وأزمنة عادية، بل بجعلهم أشبه بكائنات الخيال العلمي، أو كائنات غريبة الأطوار على الأقل. إنهم يملكون انتماءً أرضيًا وواقعيًا بالطبع، ولكنه انتماء خاضع لفكرة أن يكون هذا الانتماء هشًا وخفيفًا ومواربًا وغير مرئي بوضوح، وأن يكون مستعدًا للانحسار أمام قوة الخيال والغرابة والتجريب السردي التي تسري في القصص.

مع الاستمرار في القراءة تبدأ هذه الغرابة بفقدان جزء من غرابتها، وتروح تحظى بنوع من التقبّل من قبل القارئ، بل إن بعض القصص تروح تثير إعجابه وتُشعره بمتعة غامضة أيضًا، فيتخلى عن تحفّظه، وينخرط أكثر في أسلوب الكاتبة، بل (ربما) يترقّب ما ستفعله في القصة التالية أيضًا. الكاتبة نفسها لا تُبقي نصوصها على سوية واحدة من الغرابة، إذْ تسمح بعض القصص بموافاة القارئ في منطقة أقرب إليه ومن ذائقته، وإن كان ذلك يحدث من دون تخلي الكاتبة عن مزاجها التجريبي، ففي قصة “تبرّج”، نجد امرأة تضع أحمر شفاه وتتأمل نفسها، ثم “تفيض الحُمرة من شفتيها، ويبدأ اللون الأحمر بالسيلان والتدفق، بحيث تغرق فيه تقريبًا”. وفي قصة “الوعول”، تشتري بطلة القصة، على مضض، حذاءً مصنوعًا من جلد الغزلان، فهي ضد صيد الحيوانات البرية والاتجار بجلودها، وسط إيحاءات متواصلة بأنها دهست غزالًا بسيارتها، فتعيش كابوسًا من الأفكار، إلى أن تُخرج الحذاء الموجود معها في السيارة. تضع رأسها فيه، ثم كتفيها، ثم تختفي كلها بداخله، وهي استعارة لفكرة أن روحها لبست جلد الغزال وربما صارت غزالًا.

في بعض القصص هناك استثمار للحكايات الشعبية التراثية. أكثر من قصة يمكن لنا أن نتخيل أنها تبدأ بـ “كان يا ما كان” مثل قصة “الوعد” وقصة “المسخ”. ولكن هذه الروح الشعبية ممزوجة بتفاصيل ولغة حديثة وشخصيات معاصرة.

هناك أصلٌ واقعي أو نواةٌ واقعية لكل قصة في المجموعة ولكن هذه النواة مُطوَّرة ومُعدّلة سرديًا لكي تجعل هذا الأصل الواقعي مموّهًا أو شبه محجوب أو غير مرئي بسهولة. بطريقة ما يمكن القول إن هذا هو أسلوب الكاتبة وطموحها في كتابة نصوص قصصية تتميز بالتجريب والمغامرة. ونقول نصوص قصصية لكي نجاري طموح المؤلفة، فقصصها ليست قصصًا تقليدية. وليست فيها “حدوتة” تقليدية أيضًا. هناك تجريب وحرية في الكتابة والموضوعات. تجريب يتضمن المجازفة بخسارة القارئ أو بتعذيبه وإقلاقه قبل أن يحصل (ليس في كل القصص) على متعة المغزى. نعم هناك مغزى في كل قصة، ولكنه ليس ممنوحًا ومفهومًا بسهولة. هناك ترميز أحيانًا، وهناك محاولة لجعل القصص نصوصًا سردية أو نصوصًا مفتوحة غير مبالية بشروط القص التقليدي.

المجازفة موجودة، وهي جديرة بالمديح، حيث رهان المؤلفة هو أن تكسب القارئ؛ القارئ الذي لديه استعداد لتلقّي هذه المجازفة، ولديه شغف ورغبة بقراءة قصص غير اعتيادية!