رقصة الشاب الغزاوي في انتفاضته ضد النيران الإسرائيلية لم يتأخر صداها طويلًا. بلحظة قياسية، نزلت رقصة مثلها، هندية أميركية، بهندام أصحابها التقليدي، بالريش المتفنّن مثل التاج على الرأس، والجلود المسْبوكة والضفائر السوداء.
هذا التلاقي الفني بين ما باتَ معروفًا بـ”السكان الأصليين”، أو الهنود الحمر لأميركا الشمالية، وبين الشعب الفلسطيني، بدأ قبل ذلك. التنظيمات والمجموعات الهندية لها تاريخ في الربط بين نضالها من أجل أرضها وحقوقها، وبين نضال الفلسطينيين للهدف ذاته. وبقي هذا الربط محدود الإنتشار.
فكانت غزة، التي استطاعت أن تجمع السكان الأصليين للقارات الثلاث، أميركا، أستراليا، نيوزلندا، في تظاهرات بالوقت الواحد، دعمًا لها. وكانت رقصات أخرى مستوحاة من التراث، وخطابات على المنابر وشخصيات هندية تكتشفها للمرة الأولى، متمرّسة على صوغ الموقف الواضح الدقيق. وبيانات للعشرات من المجموعات والشخصيات الهندية، تركز على تجربتها مع الحكم الأميركي لبلادها والاستيلاء على أراضها.
يقول أحد بياناتها: “لم ننجح بتحرير وطننا لأن الولايات المتحدة كانت تسعى لإجهاض أحلامنا بالحرية. وليس من المستغرب أن تعتمد السلوك نفسه مع إسرائيل لتقوم بالشيء المماثل مع الفلسطينيين. إن الإحتلال الأميركي (لأرضنا) يكسب شرعية وقوة بفضل الإحتلال الإسرائيلي. وبالعكس أيضًا”. وفي البيان مقارنة بينهم وبين الفلسطينيين: “إن الشعوب الأولى ترى تاريخًا واحدًا مع الفلسطينيين: بنضالهم للحرية وبالعنف الكولونيالي الذي تمارسه عليهم دولهم، للاستيلاء على المزيد من أراضيهم”.
وعلى رأس مطالبهم، وقف إطلاق النار في غزة، ومدّها بالماء والغذاء والدواء، حماية المرافق الطبية، وشؤون حياتية تفصيلية أخرى. ثم وقف كافة المساعدات العسكرية لإسرائيل، من الولايات المتحدة وكندا، فضلًا عن إدانة العنف “ضد الفلسطينيين والإسلام والعرب”، و”ضد السكان الأصليين”، و”ضد اليهود”…. ومناهضة الصهيونية بصفتها “شكًا من أشكال العنصرية والأيديولوجية الإستعمارية”. وللأموات عندهم قيمة لا تقلّ عن الأحياء. أحد مطالب بيانهم: “إعطاء الفرصة لتكريم الشهداء بدفنهم بطريقة مناسِبة بدلًا من تكدّس أجسادهم في المشارح وتحت الأنقاض، وتفشي الأمراض”.
أما صحيفة “الأمة الحمراء”، التي تضم أقلامًا هندية أميركية شمالية، فهي تناضل من أجل أراضيها وحقوقها، وتجد، عبر المطالب المرفوعة من أجل فلسطين، ملامح هذا النضال المغيَّب تمامًا في الإعلام والثقافة الأميركيَين.
إنهم مثل الاكتشاف… أعطتهم فلسطين نافذة ليتكلموا عنها وعنهم. أنظر الى أهدافهم “الأميركية المحلية”: السماح من دون مواربة لتنظيم إحتجاجات وفعاليات لكبار الشخصيات الهندية، دعم حق عودة الفلسطينيين إلى بلادهم، من دون تردّد ولا اعتذار، دعم الدياسبورا الفلسطينية بمنحهم مساحات لتنظيم أنفسهم والتكلّم عن بلدهم، تقديم واجب الضيافة “لأهلنا الفلسطينيين، إذا وُجِدوا في بلادنا”، دعم المقاومة الفلسطينية بكافة أشكالها، تثقيف الشعوب الأصلية بتاريخ فلسطين وحاضرها، عن طريق المؤتمرات والقراءات والفعاليات.
الهنود الذين نتحدث عنهم موزعون بين الولايات المتحدة وكندا. ولكل دولة منهما سياسة مختلفة عن الأخرى. الأولى، اتبعت سياسة فصل بين الهنود وبين الباقين من سكانها. منحتهم الحرية بالتصرف، ولكنها أهملتهم وأفقرتهم. أما الدولة الكندية، فتحاول أن تطبق نظريتها عن “كندا متعددة ومتنوعة”، فتترجمها بـ”دمجهم” مع غيرهم من السكان. برامجها وتوجهاتها الإعلامية ولجان المصالحة التي أنشأتها حديثًا تقول هذا الميل. لكن مهمتها صعبة، بعد هذه العقود من الاستيلاء على أراضيهم وتهميشهم.
وفي ما تبقى من هذا المقال، سيكون موضوعنا الهنود الكنديين: آخر إحصاء لهم، يقول بأن عددهم لا يتجاوز المليونين، أي 4.6% من السكان كلهم. والحكومة الكندية تقسمهم إلى ثلاث فئات: “الأمم الأولى”، التي تضم قبائل وشعوبًا هندية أصلية، وجلّها مثل القبائل التي نعرفها والمتوّجة بالريش المنسّق. بعضها لها امتداد جنوبي في الولايات المتحدة، وهي الأكبر. الفئة الثانية هي “الخلاسيين”، الذين تسري في عروقهم دماء هندية- أوروبية. أما الفئة الثالثة فهي “الإنْويت”. ولها خصوصية عن الباقين.
والإنْويت معروفون عالميًا باسم “الإسكيمو”. هؤلاء الرجال والنساء الذين تراهم الإعلانات التجارية عن البوظة أو التزلج لا يشبهون الهنود الحمر الباقين؛ عيونهم “صينية” مسحوبة وبشرتهم سمراء وسميكة، يلبسون المعاطف من الفرو المزدوج ويرتدون البوطات الضخمة، ويسكنون بيوتا مصنوعة من الثلج اسمها “إيغلوو”… لم يعُد اسمهم “إسكيمو” الآن. استطاعوا أن يغيّروه وأن يسمّوا أنفسهم “إنْويت”. ذلك أن “الإسكيمو” تعني “أكَلَة اللحوم النيئة”، وهي عبارة مسيئة، فيما “الإنْويت” تعني “الشعب” وحسب. وسموا أرضهم “نونافوت”، والتي تعني “أرضنا” بلغتهم.
في روايتها المهملة طويلًا “النهر الذي لا يرتاح”، تكتب غبريال روَا قصة تدور أحداثها في النونافوت عن فتاة مراهقة من الإنْويت، تحتكّ بالحضارة التي أتى بها هؤلاء الأغراب |
في عام 2015، اكُتشفت مقبرة جماعية مطمورة، لثلاثمئة طفل، ملاصقة لإحدى المدارس الداخلية القديمة مخصصة للأولاد الهنود والإنويت. وبعد هذا العام، انتشرت الأخبار والصور عن شبكة من المدارس المماثلة، يبلغ عددها 139 مدرسة، كانت تديرها الحكومة الفيدرالية بالاشتراك مع الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية. وتبين من المزيد من التحقيق أن العدد الإجمالي لهؤلاء التلاميذ بلغ مئة وخمسين ألف طفل من أبناء هذه الجماعات.
كان الأطفال يُنتزعون من أهلهم وبيوتهم ويدخَلون عنوة في هذه المدارس. يُحَمَلون أسماء أخرى، يرغَمون على لغة أخرى، وغذاء وذاكرة ودين وتاريخ… كله من بنات العقل الأوروبي الذي استوطن في تلك الأراضي. واستمر ذلك على امتداد سبعة أجيال. فكانت النتيجة ضياع أهل أبناء أرض النونافوت في المخدرات والكحول، لنسيان ما جرى لهم لأبنائهم أو أجدادهم: من دمار نفسي وصحي وروحي. بعد اكتشافه، وُصِف هذا التعليم القصري بـ”الإبادة الثقافية”. فكانت اعتذارات وتشكيل “لجنة المصالحة” التي دفعت الملايين من الدولارات تعويضًا عن هذه الخسائر لأحفاد آخرين، من الجيل الجديد…
وهذه المدارس هي النقطة المشتركة الأخرى بين “الإنْويت” وبين “الأمم الأولى” الأخرى من السكان الأصليين.
ولكن ثمة اختلاف معهم: أوله ذلك التقسيم لأراضيهم بين الدول، بما يشبه اتفاقية سايكس بيكو، التي قسّمت بلاد الشام. كانت للإنْويت بلاد ممتدة بين القارتين الأميركية والآسيوية وجزيرة غرولاند في القطب الشمالي. أثناء الحرب الباردة، كان للولايات المتحدة قاعدة عسكرية في أرض “الإنْويت”، وارتأت المصالح الجيوسياسية، بأن تكون هذه القاعدة جزءًا من أرضها في القارة الأميركية، والإبقاء على الجزء الآخر في الاتحاد السوفياتي، روسيا حاليًا. أما الجزء القطبي الشمالي، أي جزيرة غرويلاند، فتبقى ملكية للدانمارك. أي أن شعب الإنْويت، موزَّع حاليًا، بين شمال شرقي كندا، وشمال غرب روسيا، وجزيرة غرويلاند الدانماركية.
اختلاف آخر: قد تكون بلاد الإنْويت أغنى أراضي كندا. في سطحها وجوفها مياهها، أثمن المعادن والأحجار، ونفط وغاز ومياه، وطاقة متجدّدة… ولكنها في الوقت نفسه أولى الأراضي المهدّدة بأزمة المناخ. هي القريبة من جليد القطب الشمالي الآخذ بالذوَبان، وشواطئها المتآكلة شيئًا فشيئًا، وتعطّل طرق الجليد للمواصلات، والأمن الغذائي، مع هجرة السمك والأيل والفقْمة، أو انقراضهم، والمنازل ذات التدفئة العالية التي لم تعد صالحة…
الإنويت لفتوا انتباهي في الصيف الماضي، في شوارع مونتريال، القريبة من وسط البلد. أنا معتادة على شحاذي تورونتو، لوحدهم، يأخذون زاوية معينة من الرصيف ويجلسون، يضعون كباية لملئها بما يجود عليهم المحسنون، بعضهم يقرأ والبعض الآخر يغني، أو برفقة كلب هرم، وبعض الطعام، والكثير من أكياس البلاستيك المكدّسة وراء الظهر تشكل مقعدًا وثيرًا في هكذا وضع، وكرتونة مرفوعة، مكتوب عليها شقاؤهم وبؤسهم… وجميعهم عابسون، يحاولون أن يعتزوا بأنفسهم. ولكن ملامحهم تحيلهم إلى أصول مختلفة.
أما في مونتريال فالشحاذون الذي رأيتهم كلهم كانوا غريبين: يجلسون على الرصيف جماعةً، اثنين أو ثلاثة، يسدّون طريقه، لا يحملون أغراضًا، يأكلون يشربون ويدخنون، متوترون، يتخاطبون بشيء من الصراخ… وجوههم غاضبة، لا يكترثون بالمارة، كأنهم لا يفهمون الحق الذي يطالبون به. والأهم من كل ذلك، ملامحهم: عيونهم “الصينية”، وبشرتهم وأجسادهم القوية ذات العضلات، يشبهون “الإسْكيمو”، ولكن بلباس صيفي…
من هم هؤلاء؟ سألتُ. قالوا لي إنهم شعب “الإنْويت”. مدينة مونتريال هي المكان المفضل لديهم. فمقاطعة الكيبيك، حيث تقع هذه المدينة، هي الأقرب الى أراضيهم، تشترك معها بحدود بحرية ضيقة… فبقوا في عقلي حتى “طوفان الأقصى”، حيث عادت قصتهم، وقصة أقرانهم من السكان الأصليين، لتبرز من جديد، بعدما بدت وكأنها نائمة في الأدراج. رغم كل جهود الحكومة الفيدرالية لمساعدتهم. ولكن يبدو أن المساعدات قليلة، أو أن نوعيتها لا تضمد الجراح. هم يقولون بأنها تحتاج إلى أجيال أخرى لتلتئم.
فالموضوع ليس فقط أكل وشرب ومكان للنوم وعمل، المتعثرين على كل حال. إنه سرقة الهوية، أو الروح، إذا شئت.
في روايتها المهملة طويلًا “النهر الذي لا يرتاح” (دار بوريال، 1970)، تكتب غبريال روَا قصة تدور أحداثها هناك في النونافوت (شمال شرق كندا). تكتبها من وحي زيارة قامت بها لمدينة فورت شوميو عام 1961، التي كانت وما زالت أميركية، قبل أن تستلمها كندا وتعلن عن إنشائها وضمها إليها عام 1999. قصة لفتاة مراهقة من الإنْويت، إسمها ليزا، تحتكّ بالحضارة التي أتى بها هؤلاء الأغراب، مركز الشرطة، والبعثة الكنسية، والمستشفى والمحالات التجارية…
تغوص ليزا بهذه الحضارة الجديدة، وتحمل من جندي أميركي بعد عملية جنسية لا تفهمها ولا تشعر بمعناها. وتلد صبيًا أشقر، فتتماهى مع الأجانب في فورت شوميو، وتحاول تقليد أنماط حياتهم. ولكن ابنها يؤخذ إلى إحدى المدارس الداخلية تلك، فتطمئن ليزا، ولكنها لا تلبث أن تضيع من يأسها برؤية ابنها مجددًا، وتعود إلى الكوخ القديم لبلدتها. وتسائل هويتها المسْلوبة، وفوقية الأجانب الأميركيين، وتبقى حبيسة بين فرحتها من أن ابنها أنقِذ بالتحاقه بالأجانب، وبين قلقها عليه في أرض لا تعرفها ولا هو يعرفها. فيبدو المستقبل أمامها غامض، تحسد أجدادها على طمأنينتهم…
ما لفتَني في الرواية، تعليق البطلة ليزا على نقل عمها المريض إلى أحد مستشفيات “الجنوب”، أي الأميركي، لكي يعالَج هناك. فتستغرب هذه العلاقة التي يقيمها أولئك الأجانب مع الموت. عندهم، الإنْويت، الموت يأتي لوحده، عندما يشعر الواحد منهم بأن عمره انتهى؛ يجلس قريبًا من سكنه على كرسي وسط الثلج والريح وينتظر الموت بكل سكينة، بشكل طبيعي، لا يخلو من الارتياح. وبعد أن يرحل وسط الطبيعة، يُدفن بمراسيم وطقوس خاصة. والأرجح من دون مبالغة في الحزن، أو بحداد له طقوس أيضًا.