في حال صادفنا هذا الرجل المذكور في العنوان، أو تحدثنا إليه، فربما نُكمل مهمة الكاتب المسرحي مضر الحجي في إكمال نص مسرحي عن ضابط نازي سابق عاش بدمشق. لم تترك الشذرات، التي بعثرها مضر قبل اختفائه، لبقية أعضاء تجمّع مقلوبة المسرحي – وائل قدور دراماتورجاً ومحمد آل رشي ممثلاً – إلا خيار التجريب عليها، علّه يقودهما إلى الطريق الصحيح في العرض المسرحي الذي حمل عنوان الظل الطويل لألويس برونر.

تم افتتاح العرض في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني على مسرح شاوشبيل لايبزغ «Schauspiel Leipzig» ضمن مهرجان المشهد الأوروبي (euro-scene) في مدينة لايبزغ الألمانية. قام المخرج الفلسطيني البريطاني عمر العريان بإخراج العرض، وهو يبدأ بمكالمة فيديو بين وائل ومحمد، يقترحان فيها الرسالة الأمثل التي سيُرسلانها إلى مدير المهرجان بهدف إلغاء العرض، ولكن الخوف من عواقب الإلغاء وإهدار ما صُرف من نقود لإنتاجه، وكذلك برمجته ضمن جدول المهرجان، أمورٌ فرضت عليهما المضي قدماً في التمرينات على ما تركه مضر الحجي.

على العرض أن يستمر

يستلم وائل ومحمد من إدارة المسرح الغرفة التي كان يكتب فيها مضر النص المسرحي. يدخلها الاثنان مع أغنية فرقة كوين (The show must go on) في الخلفية. اشتمل الفضاء الذي صممه يوناس فوغت على طاولة مكتب عليها مُصنَّفات وأوراق وكأس متة، أُلصقت على جنبات الطاولة ملاحظات، وثمة عدة كراسٍ «مفرطعة» في المكان، وطابعة وضعت على كرسي. على الأرضية أسفل الطابعة هناك كومة من الأوراق التي انهمرت في وقتٍ سابق من الطابعة ولم تُلتقَط، لتبدو الطابعة كشلال لمعلوماتٍ متدفقة. هناك أيضاً سلّة قمامة تتكوم فيها الأوراق المجعدة والمرمية، كرمز للعجز الذي وصله كاتب النص. تظهر سلة القمامة كجامعة للمعلومات التاريخية عن ألويس برونر؛ معلومات كانت مفتاح مضر لدخول عوالم هذه الشخصية. تساؤل الممثلين على الخشبة عن مكان البداية المناسب لبحثهما، و«لملمة» ما تركه مضر خلفه، يقودهما إلى محاولات تجريبية. و«اللملمة» تقنية مناسبة للتجريب في محاولة الشُغل على الشذرات الموضوعة هنا وهناك. يباشر الممثلان بالتقاط الملحوظات من أماكن لا يراها الجمهور، من خلف المكتب، من سلّة القمامة وحتى من أسفل مقعد إحدى الكراسي. تتقاطع أماكن وضع الملاحظات بعشوائيتها مع ضبابية تاريخ برونر، وهو ما بدا مقصوداً كخيار إخراجي.

 

تضمّنت بعض الملاحظات انطباعات مضر عن عملية البحث؛ «أول ما بلشت بحث عن قصة برونر لقيت حالي أمام أرشيف هائل عم يوثّق الجرائم اللي ارتكبها خلال الحرب، كأني عم أتعرّف على وحش، كأني عم اقرأ سيرة حياة حرفي عم يطور أدواتو من جريمة لجريمة. وكل مرة عم يحاول يثبت أنو هوي مختلف وأنو هوي الأفضل». المُرادف البصري للأرشيف الهائل الذي تحدث عنه مضر هو الغرفة التي نشاهدها أمامنا، وعملية لملمة ما توصل إليه عن حياة ألويس برونر في دمشق هي أشبه بمطاردة «كائن هلامي». أما المعلومات التاريخية التي يتم نبشها فتقول أن برونر هو ضابط نازي في قوات الأمن الخاصة النازية (Schutzstaffel)، وكان مسؤولاً عن نقل 100 ألف يهودي إلى معسكرات الإعتقال. هرب بعد الحرب واستقرّ في دمشق. تبناه عبد الحميد السراج وحافظ الأسد من بعده، وتؤكد بعض المراجع أن برونر عمل مستشاراً أمنياً للأخير.

ألويس برونر كموضوع صدفة محتملة

إن كُنّا قد صادفنا ألويس برونر، أو جورج فيشر – الاسم الذي كان يعيش تحته برونر في دمشق، فأين يمكن أن يكون ذلك قد حدث؟ من هنا واستناداً إلى بعض المعلومات التي ترسم صورة لجسد برونر بعد تعرُّضه لمحاولَتي اغتيال في دمشق، يبدأ محمد آل رشي بالغرق في شخصية برونر مُجرِّباً/محاولاً تجسيد ذاك الجسد. يُرتّب الكراسي لتكون سريراً في مستشفى اعتماداً على فرضية وضع برونر الصحي آنذاك، والذي تضاربت حوله المعلومات، تماماً كما تضارب بشأن تاريخ وفاته الذي تمتد احتمالاته على مدى عشر سنوات، من الـ 2000 إلى 2010. ينتهي المشهد التجريبي بنوم محمد على الأخبار التي يقرأها وائل من الجريدة، والتي تهدف لاقتراح تاريخ محدد ينتمي إليه المشهد، في عام 2002. هذا الاقتراح يقود محمد ووائل إلى أسئلة عن المكان، عن دمشق؛ المكان الذي لا يستطيعان فعلاً تَذكُّره. حبكة المشهد تعتمد أساساً على تساؤل وائل قبل المشهد فيما إذا كان يستطيع أحد منا، أصلاً، تَذكُّر دمشق في تلك الفترة.

بذرةٌ لمشهدٍ آخر تكون في رسالة من برونر لأحد رفاق «دربه» يُحدّثه فيها عن الثلوج في دمشق. تدفع هذه المعلومة محمد للولوج إلى ذاكرته عن الثلج في دمشق، وعن المعهد العالي للفنون المسرحية ومهرجان دمشق السينمائي، في تداعٍ يوصل لتجربة لقاءٍ آخر مع برونر، ربما حدث في محل لبيع الأفلام. بائع أفلام يدرس المسرح، وبرونر العجوز الذي أتى ليأخذ طلبية أفلام ألمانية أنتجت بعد عام 2003. تحضر في هذا المشهد ما قد يمكن أن تكون مواقف العجوز الألماني/الضابط النازي السابق وبائع الأفلام عند الحديث عن فيلم وداعاً لينين، وبتعبير وائل/بائع الأفلام عن إعجابه بقصة الفيلم كقصة حقيقية تُشبه الخيال ينتقل العرض إلى مستوى تجريبي آخر. يجمع أداء محمد آل رشي عدة مستويات، فالجدل الذي يقدمه في انشغاله على شخصية برونر ينحو باتجاه ذاتي مع نفاذ مقترحات التجريب على شخصية برونر، مُقدِّماً قصة مضادة عن كاتب مسرحي يكتب عن كاتب يكتب قصة ضابط!

هل يمكن الكتابة بثلاثة أصابع؟

مع نفاد اقتراحات التجريب على ما تركه كاتب النص خلفه، ووصول تسجيل صوتي منه يطالب فيه بقية أعضاء التجمّع المسرحي بعدم مطالبته بإتمام النص، قائلاً إن النص قد اكتمل في اللحظة التي قرَّرَ فيها مضر التوقف عن الكتابة، مضيفاً مقطعاً عن الصُدَف المرتبطة بتاريخ ميلاد برونر وابن مضر ووالده، ويترك لهما أن يفترضا أنه يعاني من مخاوف ويتعرض للتهديد. ترمي الطابعة أوراقاً تتحدث عن نشر المخابرات الألمانية لملف ضخم، نشرت مجلة الجمهورية .نت  في وقت سابق جزءاً منه قدمه الكاتب سليمان عبد الله، يغطي جزءاً كبيراً من حياة برونر في دمشق والتي تخلص إلى أنه قد تحوَّلَ إلى شخص يتملّكه الخوف.

 

يجد التجريب أُفقَاً آخر في هذه المرحلة، فيقترح وائل ومحمد مشهداً يحاولان فيه الإجابة عن سبب رحيل مضر، يؤدي فيه وائل دور مضر الذي يحاول تقديم بلاغ في قسم شرطة في ألمانيا يتعلق بمُلاحقات يتعرّض لها. تُركِّزُ المحاولات التجريبية هنا على عجز مضر، ويتم تقديمه في جلسة علاج نفسي. اقتراحان يُظهِران مضر ككاتب بدأ يتملّكه الخوف من المضي في الكتابة عن ألويس برونر وتقصّي تاريخه، في عملية إبداعية تنتهي بضروب من الخيال كفقدان مضر لثلاثة أصابع بعد عضة من كلب الجار وعجزه عن الكتابة. مشهد يُختَتم بنوبة هلع مُتخيَّلة يتعرض لها كاتب النص، في ارتجالٍ مبني على فكرة العجز، يستوحي من جو البحث والمعلومات التي وجدها مضر عن ألويس برونر، ويتم توظيفها في شكل البارانويا التي بات مضر يعاني منها. بارانويا ترتبط بكل ظروف إنجاز هذا النص المسرحي.

الظل الطويل

الأسطورة في جانب منها هي محاولة لتفسير السلوك البشري ومصير الإنسان تدور أحداثها في زمن غير الزمن الحالي، وهذه هي حال حضور ألويس برونر في دمشق؛ حياة نتعرف عليها من خلال تخمينات واستنتاجات باتت تأخذ شكل الأسطورة، أسطورة عاشت في دمشق، دمشق البعيدة التي لم نعد نعرفها. لكن ما نعرفه أن ألويس برونر ساهمَ في صياغة قوانين القبضة الأمنية في دمشق. القبضة التي أثّرت في حياة الكثيرين، وأفرزت العديد من الرجال النحيلين بقمصانٍ بيض ونظارات ريبان. قبضة خرج منها أنور رسلان الضابط السوري الذي اعتقلَ محمد آل رشي في دمشق إثر ظهوره في فيديو القابون، وشهد لاحقاً ضده محمد في محكمة كوبلنز في ألمانيا، المكان الذي أتاه أنور رسلان لاجئاً ليتعرّف عليه من عذبهم. فكرٌ أمنيٌ ساعد في صياغته برونر، وتشرّبته عناصر المخابرات في سوريا، فكان برونر جزءاً من الظل الذي طال وطارد جميع السوريين.