في لحظة الكتابة الحرة يقف الكاتب المنفرد وحده أمام الكلمات التي تشبه العواصف والرعود
ملخص
يمارس الكاتب صلاة الكتابة المعقدة في جغرافيا الصمت الكامل، في الصمت يكتب لكن لفضح الصمت المتواطئ من حوله، وإدانة حضوره في المجتمع والمؤسسات والأحزاب.
الكتابة الإبداعية فعل انفرادي بامتياز، هي كالصلاة، وحتى في الجماعة أنت وحيد.
أن تكتب يعني أن تعبر منطقة يعمها صمت مهول، صمت صارخ، زلزال يرج الكلمات والفراغ الأبيض بين السطور.
يمارس الكاتب صلاة الكتابة المعقدة في جغرافيا الصمت الكامل، في الصمت يكتب لكن لفضح الصمت المتواطئ من حوله وإدانة حضوره في المجتمع وفي المؤسسات وفي الأحزاب.
في ماذا ولماذا يا ترى يشبه الكاتب التنويري ذئباً منفرداً ضائعاً في البراري؟ الأول يسكن مدينة من كلمات والثاني يقيم في غابة من حجارة، ومع ذلك فهما من فصيلة واحدة، سلالة الكائنات الرافضة للأقفاص والسجون والأسوار الشائكة.
منذ طفولتي وحتى الآن ظلت صورة الذئب المنفرد ببعدها الإثنولوجي وحضورها الرمزي تسكنني وتثيرني، فاتن هو الذئب المنفرد في تيهانه، مبهر في عزلته المخيفة.
معزولًا، يحيا الذئب حياة التيه والمغامرة الحرة، في تركيز مطلق دائماً، يقظاً ومتحرراً من سطوة القطيع، يقضي يومه في الصيد وحين ينام للحظات ينام يعيون مفتوحة على آخرها. كذلك الكاتب التنويري، يرفض الأيديولوجيا الكومينوتارية.
في نظر الذئب المنفرد، كل قطيع هو سجن بأقفال وأسوار عالية، وفي عيون الكاتب النبه اليقظ، تمثل أيديولوجيا القطيع قفصاً من فولاذ.
صورة الذئب المنفرد تائهاً متنقلاً في غابة بلا حدود وبلا مخارج، عالم كفكاوي، هي صورة الكاتب الحر، التائه بين قراءاته وكتاباته، والمنشد والعامل على التحرر من وصايا القبيلة والأسرة والنظام السياسي المضروب بالسلاسل.
في عزلتهما الصاخبة، في عوالمهما المتشابكة والمربكة، يقاوم الذئب المنفرد وتوأمه الكاتب التنويري، القمع الجماعي الصامت والمؤسس.
الإبداع الأدبي الحقيقي لا يصاغ إلا بالمفرد، بصيغة المفرد دائماً، وفقط بالمفرد! إن أيديولوجيا القطيع السائدة تصادر الذكاء الفردي، وتخنق الخيال الإبداعي الحر، وتعطل الفكر المتحرر، وتخمد الطاقة الداخلية التي تولد الأدب الأصيل والجميل والمزعج.
الكاتب المنفرد، شأنه شأن الذئب نظيره، يرفض المشي في الدروب المطروقة، باستمرار يرسم دربه الخاص، دائماً درباً جديداً متجدداً، لا يشبه إلا ذاته وبصمته.
إن جوهر معنى الأدب هو عبور الغابة البشرية وحيداً، مواجهة الأخطار وحيداً، غابة بوحوشها المختلفة المفترسة، الافتراس الرمزي والجسدي، المعنوي والأخلاقي، وفي هذه الغابة يبحث الكاتب عن أجوبة ضد أيديولوجيا التكميم الجمعي.
القطيع لا يكتب قدر الذئب المنفرد، ولا القبيلة تحدد مسار الكاتب الحر.
في لحظة الكتابة الحرة، كما في لحظة القراءة المتحررة، يقف الكاتب المنفرد وحده أمام الكلمات التي تشبه العواصف والرعود، وحده يغرق في البياض الجامح للصفحة ولا يموت.
في جلد الذئب المنفرد، وبشجاعة يواجه الكاتب المنفرد أخطار اختياره وقناعاته.
في بلداننا العربية والمغاربية، أن تكتب الحقيقة، حتى ولو كانت نسبية، معناه أن تعيش حياتك كذئب منفرد في مدينة غاصة.
إنهما توأمان: الذئب المنفرد والكاتب الحر.
اقرأ المزيد
لماذا يخطئ المثقفون؟… دور التنوير في مجتمعات ملتهبة
لماذا يرفض الكتاب الكبار نشر بعض أعمالهم خلال حياتهم؟
“الكتابة لا تهاب الفراغ” في أعمال عبدالسلام بنعبدالعالي
القراءة داخل منطقة اضطراب ثقافي وتكنولوجي
الذئب كائن فريد، بخصال حميدة، وفيّ لأنثاه الذئبة حتى الموت، مرتبط بوالديه في سنوات عجزهما وضعفهما، الذئب حيوان يرفض سفاح القربى، أي زنى المحارم.
في كل كاتب لا يُروض، ينام ذئب منفرد، والكتابة المتمردة تولد من رحم الوحدة، وتنمو في الصمت الهادر للعزلة، وعقلية القطيع تقتل الخيال، وأيديولوجيا الجماعة غسل للعقول وتجفيف للذات في تفردها.
في الحقل الثقافي والأدبي، يترصد القطيع الكاتبَ الحر منذ أن يبدأ في هز المسلمات، يحاصره بمجرد أن يشعر بأنه يرج الثوابت التي رسمتها القبيلة، يسعى لجره إلى وحل الطاعة والذوبان في أيديولوجيا الجماعة.
الكتابة في العزلة مخاطرة كبرى، ومتى بدأ الكاتب يصغي إلى صوت القطيع، كمم فمه بنفسه، ومتى ضيع عزلته وانفراده، ضيع جوهر الكتابة.
الأنظمة السياسية المتسلطة والأبوية، سواء أكانت اشتراكية أم إسلامية، دأبت دائماً على مطاردة الكاتب/الذئب المنفرد، فوجوده يربك النظام العام! في منظور النظام الاشتراكي، تتجلى صورة الذئب أو الكاتب المنفرد، كمخرب، خائن رأسمالي، وفي نظر سلطة الإسلاميين، فهو الكافر والزنديق والمرتد، وفي الحالتين، يجب أن يمحى من الوجود.
لقد نقل لنا كثير من كتب الأخبار والتاريخ العربية والإسلامية تفاصيل عن المصائر التراجيدية لكتاب وشعراء وفلاسفة منفردين كُفروا ونُبذوا لأنهم رفضوا فكر القطيع، رفضوا العيش في منظومة فكرية كومينوتارية.
إن الكاتب الذي يختار أن يحيا في جلد وروح الذئب المنفرد، عليه أن يحارب على جبهتين: من جهة، محاربة أيديولوجيا الجماعة / القطيع والتعليب والتنميط، ومن جهة أخرى محاربة القراءة المرَوضة والمروّضة للعقول.
إن الكاتب، الذئب المنفرد، يجب أن يتحرر من قراءة الكتب الرائجة “بيست سيلير”، تلك التي تبرمج الخيال وتؤسس لثقافة الطاعة والتقييس، وتعمل على غسيل جماعي للأدمغة.