–
السلم الأهلي في أيّ بلد، خارج من حرب طويلة وصعبة ومثخنة بالجراح والآلام، يحتاج إلى لجان للسلم الأهلي، وقائمين عليها لتضميد الجراح، يمتلكون وعياً حقوقياً وإنسانياً وأخلاقياً وسياسياً، يواكب حالة التغيير الجديدة، ومن ثمّ يبلسم الجراح المفتوحة، وليس العبث بها أو نكء هذه الجراح من جديد. لكنّ ما حصل واقعاً مع عمل لجنة السلم الأهلي، المتجسّدة في بعض الشخصيات السورية ضمن تلك اللجنة، وأطلقت للعلن منذ فترة قصيرة، أيْ إبّان ما حصل من أحداث في الساحل السوري، وكانت ضمن محاولة الإدارة الجديدة (على عجل) لمنع امتداد الجرح وتوسعه إلى ما هو أبعد من ذلك. لكن كان هناك (ولا يزال) غياب للوعي المطابق والمواكب عقلانياً لمجريات الأمور، ثمّ ممارسة بعضهم حالات تركض وراء وعي مغلوط، من دون قدرة على الوصول إلى حالة الاستشفاء المجتمعي، وضمن سياقات التوهّم بأنهم يداوون الجراح، لكنّهم بالفعل “يعفّسون بالبقلة”، كما يقول المثل الحلبي السوري المعروف.
بات أعضاء في لجنة السلم الأهلي، بخطابهم التبريري، وأفعالهم التي ادَّعوا أنها تعبّر عن فهم جديد للعدالة الانتقالية، عبئاً كبيراً، ليس على اللجنة فحسب، بل على سياسات الحكومة الانتقالية السورية برمّتها، وتؤشّر إلى وجود انحدارات كُبرى في مسارات بناء السلم الأهلي، قد لا تكون عاقلةً، ولا رصينةً، بل لا تحفظ الحقوق، إذ تزيد وبالها وبالاً، وتعيد إنتاج الواقع السوري الجديد على أسس في غاية الانفلات، وضمن حالات من الفوات المجتمعي السياسي لم يسبق لها مثيل. ويقول العقل السياسي الهادئ، الواعي لما يجري، إنه من دون توافر مسار العدالة الانتقالية الحقّة، العادلة والواعية، ومن دون تفعيل وإنتاج لجنتها (المُعلَنة رئاستها منذ فترة فقط)، ومن دون العمل الجدّي الحثيث واليومي على إحقاق الحقوق، وعودة الحقّ بكلّيته إلى أهله، ومن ثمّ جبر الضرر، والاشتغال واقعياً وصولاً إلى حالة عامّة من المصالحة الوطنية السورية، فلا توجد أيّ إمكانية حقّة للسلم الأهلي، لأن مسألة إنفاذ السلم الأهلي لم تعد قضيةً شعاراتيةً، ولا هي عملية إطلاق هيئات شكلية فقط، بل هي ممارسة واقعية. ومن ثم، الدفع بالجميع نحو سيادة القانون المبتغى والمأمول، ضمن مسارات العمل على بناء دولة المواطنة، وليس دولة الطوائف، التي لفظها المجتمع السوري، وكانت (كما يبدو) أحد أسباب واقع التشظّي والتفتّت، التي آلت إليها الأمور، خلال فترة حكم سورية من دولة العصابة الأسدية، منذ عام 1970، وحتى لحظة السقوط المدوّي لنظام الاستبداد الأسدي. واليوم، فإن اعتقال بعض ضباط أمن بشّار الأسد، المرتكبين والعابثين والموغلين حقيقة في الدم السوري خلال فترة حكم الأسد، تحت سقف القانون، ضرورة وطنية لإحقاق السلم الأهلي. ومن ثمّ، محاكمتهم جميعاً محاكمةً عادلةً، ثمّ إطلاق سراح من لم تثبت بحقّه الأفعال المقترنة به، وتحكيم العدالة العلنية في رقاب من يدينه القانون الوضعي السوري، هو الملاذ المطلوب والضروري. غير ذلك، يؤدّي (عاجلاً أو آجلاً) إلى مزيد من الارتدادات، وعمليات القتل الفردي، والثأر الموجود أصلاً ضمن معظم أنساق المجتمع العربي، والسوري منه على وجه الخصوص.
لا يجوز اليوم أن يعتقل بعضهم مرتكبي الجرائم ثمّ يطلق سراحهم من دون محاكمة
لا يمكن إنفاذ السلم الأهلي، ولا يمكن أن يحصل مطلقاً، في ظلّ وجود حالات إعطاء الأمان لمن ارتكب الجرائم بحقّ ناسه من السوريين، وبقي طليقاً أمام ناظري السوريين من الضحايا، أو ذويهم، إذ لم يجفّ الدم السوري بعد، والآلام ما انفكّت تفقأ العين وتُدمي القلب. لا يجوز اليوم أن يعتقل بعضهم مرتكبي الجرائم ثمّ يطلق سراحهم من دون محاكمة، ومن دون أن يتبيّن للناس، كلّ الناس، مدى أحقية تنفيذ العدل الواضح والصريح، والخروج بعدها بمؤتمرات وتصريحات لا تعبّر بالضرورة عن آلام الناس، ولا تواكب حالة الفوران الشعبي، هذا الشعب المنتهكة حقوقه في طول حكم آل الأسد، ثمّ يأتي اليوم الذي يعتقد فيه هؤلاء الناس أنهم سوف ينالون حقوقهم، وسيجبر ضررهم، لكنّهم يستفيقون على إجراءات وقرارات وعبث في هذه الحقوق، وجنوح إلى مهاوي لا طائل منها.
إجراءات وقرارات وعبث، وجنوح إلى مهاوي لا طائل منها
كان السوريون دائماً يتحدّثون عن أن المجرم ما زال طليقاً، من قتلهم بالسلاح الكيماوي، ومن اعتقل أبناءهم، وهجّر أكثر من نصف الشعب السوري، ونهب خيرات البلد، وهدم أزيد من 65% من البنية التحتية في سورية، وخلق مجتمعاً كاملاً بمئات الآلاف من معوقي الحرب الأسدية على السوريين، وعندما سقط نظام المقتلة الأسدية صبيحة يوم 8 ديسمبر/ كانون أول 2024، تأمّل الناس خيراً، وقالوا لن يكون المجرم طليقاً بعد اليوم، لكنّهم، وبعد عبث لجنة السلم الأهلي بحالة السلم الأهلي ومساره، باتوا يعيدون التفكير مرّة أخرى في خطورة أن يكون المجرم طليقاً، ما يقلقهم على مستقبلهم وحيواتهم، وهي حاضرة بين ظهرانيهم.
المطلوب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إعادة إنتاج لجنة السلم الأهلي وتشكيلها على أسس جديدة ومختلفة، وشمول حراكها وعملها ليكون الوطن السوري كلّه، وليس الساحل السوري فقط. كذلك لا يمكن أن تعمل لجنة السلم الأهلي وحدها، فعملها يُواكب عملين مهمّين متساوقين معها لتشكيل هيئة عدالة انتقالية، شاملة وقادرة وكفؤة، وبأسرع وقت ممكن، وكذلك لجنة عليا للمفقودين، لأن عمل هيئات العدالة الانتقالية والمفقودين سيترك أثره إيجاباً في مجريات ومنتجات وآليات عمل السلم الأهلي بالضرورة، وبغير ذلك لا إمكانية أبداً للحديث عن السلم الأهلي في سورية، فوجود لجان للسلم الأهلي لا تمنع بالضرورة حرباً أهلية، فمن أجل منع تلك الحرب لا بدّ من بناء صرح جدّي للجان تعمل للحفاظ على السلم الأهلي، وإعادة بناء الوطن السوري على معطيات حديثة يقوم عليها أناس يمتلكون الوعي الحقيقي والعقل الهادئ المستنير، وليس العقل القمعي السلطوي المستبدّ والخارج من القرون الوسطى.