الصفعة هي استكمال لهذا السقوط في الحفرة التي حفرها الحزب لنفسه ولجمهوره. والعقل والمنطق يقولان، إنك إذا وجدت نفسك في حفرة، فأول ما عليك فعله أن تتوقف عن الحفر. لكن الحزب مستمر في الحفر والصفع والغرق والتراجع.
في نيسان/ إبريل 1996، كان الجنوب يلهث وينزف. لا من يصدّ، لا من يحمي، ولا من يقول للآلة العسكرية الإسرائيلية “كفى”. المدنيون هربوا من بيوتهم إلى مقرّ الأمم المتحدة في قانا. الحكاية معروفة: الملجأ، الراية الزرقاء، القصف، الأشلاء. أكثر من مئة قتيل، غالبيتهم نساء وأطفال. أربعة جنود من اليونيفيل أُصيبوا أيضاً، لكن لا أحد توقّف طويلاً عند حكاياتهم. كانوا هناك، يحاولون جهدهم لأداء دورهم في حماية السلام وحفظه.
جنود من فيجي، من إيرلندا، من غانا، من نيبال، من فنلندا، من إندونيسيا… يسكنون القرى أكثر مما تسكنها الدولة. يرممون، يزرعون، يُسعفون، يدفعون من أرواحهم، ثم يغادرون بصمت إلى بلدانهم.
326 جنديًا من اليونيفيل سقطوا في لبنان منذ 1978.
الموت كان جزءًا من مهمتهم، لكنهم لم يتوقفوا عن النزول إلى الحقول، ولا عن إصلاح الطرقات، ولا عن مساعدة السكان المحليين في مجالات مختلفة.
اليونيفيل لم تكن يوماً خصماً لأحد في الجنوب، بل كانت دائماً مصدر ارتياح، ولو معنوي، للأهالي. كما كانت، ولا تزال، مصدراً لأرزاق كثيرة تستفيد من وجودها في قرى قاحلة، لم يفتح فيها “حزب الله” وزائدته حركة أمل مشروعاً منتجاً.
لم توفر إسرائيل بدورها اليونيفيل، وهي لا تريدهم هناك في الجنوب. نتانياهو يسعى إلى إفراغ الجنوب من الجنود الأجانب الذين قد يعيقون، ولو لوجستياً، آلته العكسرية. في قانا، فُجِّر مقرها. في بنت جبيل، أُطلقت عليها قذائف. وفي كل مرة، لم تغيّر المهمة النبيلة، وظلت تجدد لها حتى مع استحالتها: حفظ السلام. حتى أهل القرى حفظوا وجوه الجنود، تعاملوا معهم كجيران، أحياناً كأطباء، وأحياناً كأصدقاء يوزّعون السكاكر مع الابتسامات على الأطفال. أطفال الجنوب اعتادوا أن يلوحوا بفرح لآليات اليونيفيل حينما تمرّ في القرى والبلدات الجنوبية. الاعتداءات عليهم، من إسرائيل ومن “حزب الله”، كانت دائماً مدبّرة وواعية. لم تكن يوماً رد فعل طبيعياً.
صفعة الحزب كان يمكن أن تصيب وجه جندي إندونيسي مثلاً، دولته لديها إشكالية جوهرية مع إسرائيل، وترفض التطبيع معها دعماً للقضية الفلسطينية، لكن لا يستطيع جاهل أو حاقد أو طائش أن يميّز.
هل كان الرجل الذي صفع الجندي الفنلندي في اليونيفيل طائشاً أو حاقداً أو جاهلاً؟
لا. لم يكن كذلك.
لم يكن شخصاً من صفع الجندي الفنلندي، بل محوراً بأمه وأبيه، يمتد من طهران إلى بيروت، خسر معظم أوراقه مع سقوط بشار الأسد والضربات القاسمة التي تعرض لها حزب الله وقياداته وبنيته العسكرية والاستخباراتية.
هذه صفعة الخاسر المهزوم الذي يبحث عن إصدار “مؤثرات صوتية” يعيد بها شيئاً من هيبة ناقصة، أمام بيئة لم يتوقف لحظة عن استثمار نكبتها، حتى في عزّ إنهاكها وتعبها واستسلامها، وفائض قوة تحول إلى فائض ضعف. الصفعة هنا، إعلان إفلاس، وارتطام يد تغرق بخشبة عابرة، ومحاولة رمي ورقة محروقة على طاولة مفاوضات يلهث فيها نظام الملالي إلى صفقة مع الأميركيين.
يعجز من وراء الصفعة عن توجيه أقل منها إلى الإسرائيليين، فيختار هدفاً هشاً، كقوات حفظ السلام. أو يختار عمامة بيضاء كالشيخ ياسر عودة، ليمرغها في الركام الذي تسبب فيه، بعدما جرّ البلاد إلى حرب مدمرة كان يعلم جيداً نتائجها على البلد، وإن كان هذه المرة لم يتوقع نتائجها عليه.
اليد التي امتدت لضرب الجندي في اليونيفيل، هي نفسها التي امتدت للاعتداء على عودة، وإن اختلف البلطجي المنفذ. لكن البصمات الصفراء نفسها يمكن العثور عليها في الحالتين. وهي يد جبانة على كل حال، لن يخرج من يقف وراءها ليعلن مسؤوليته عنها. لأن الحزب في العلن وقّع والتزم بالقرار 1701، الذي يذكّر بقرارات سابقة وبدور قوات اليونيفيل في الإشراف على تطبيق وقف إطلاق النار، والقيام بالدوريات التي يقوم بها جنود اليونيفيل بشكل دوري، والتي تثير حفيظة “الأهالي” لسبب لا يمكن فهمه. فهذه القوات لا تبحث إلا عن السلاح، وهؤلاء الأهالي يفترض أنهم بيئة وجمهور حزب سعى بالطرق كافة إلى إيقاف الحرب بعدما مني بهزيمة، كان يمكن إذا استمرت الحرب ألا يقوم منها، ولا يخرج مسؤول فيه إلى الضوء. اختار الحزب، تحت ضغط الأهالي الحقيقي، أن يوقف الحرب والدمار الذي تسبب فيه، لأن “الأهالي” الحقيقيين في بيئة الحزب تعبوا وانكسروا وأُذلّوا وخاب أملهم في حزب كان يتبجح طوال عقدين بقوة لا وجود لها، وتفوق وهمي، وتبين أنه هو، لا إسرائيل، أوهن من بيت العنكبوت.
الصفعة هي استكمال لهذا السقوط في الحفرة التي حفرها الحزب لنفسه ولجمهوره. والعقل والمنطق يقولان، إنك إذا وجدت نفسك في حفرة، فأول ما عليك فعله أن تتوقف عن الحفر.
لكن الحزب مستمر في الحفر والصفع والغرق والتراجع. استطاعت إسرائيل أن تعيد الحزب إلى ما قبل العام 2000. وإذا استمر الحزب على هذا المنوال البدائي والمتخلف في مقاربة تغيرات إقليمية والتعامل معها بـ”أدبيات” البلطجية في الأزقة، فلن يصطدم حينها بالـ1701، بل قد يجد نفسه بعد حين، يترحم على القرار 425!