فرض لباس بحر ليس قراراً عابراً أو إجراءً إدارياً عادياً، بل خطوة أخرى في مسار طويل من قولبة المجتمع وفق مقاييس أخلاقية طبقية وجندرية، تميز بين من يستطيع الدفع ومن يُجبر على الالتزام. وهو يعيدنا دائماً إلى المعادلة القديمة ذاتها: من يملك السلطة على جسد المرأة، يملك القرار والسلطة على المجتمع بأسره.
في ظل الأحداث المتسارعة والمآسي الكبرى التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، قد يبدو الحديث عن الحريات الشخصية، أو حتى عن لباس البحر، للبعض ترفاً أو خروجاً عن الواقع. تُقال عبارات من قبيل: “نحن لم نرَ البحر أصلاً!”، أو “عن أي بكيني تتحدثون وهناك مختفون قسرياً وعدالة مؤجلة؟”، وكأن المطالبة بالحرية الجسدية والخيارات الفردية نقيضٌ للنضال من أجل العدالة السياسية أو الحقوق الأساسية التي بدأت في عام 2011.
هذه التفاصيل التي تُعتبر “صغيرة” أو “غير مهمة” ليست هامشية كما يظنّ ويروّج البعض، إذ تعكس طريقة يعاد بها تشكيل المجتمع، وتكشف بوضوح عن الانقسامات الطبقية والثقافية والجندرية التي تتسع يوماً بعد يوم. فحين يُتاح ارتداء البكيني فقط في منتجعات فاخرة مخصصة للمقتدرين، ويُفرض على النساء الأخريات ارتداء البوركيني لأنهن لا يستطعن ارتياد سوى الشواطئ العامة، يصبح القرار قطعاً غير بريء وتصبح هندسة الحرية مرتبطة برأس المال لا بخيار الفرد.
“لا نساء في السياسة السورية!”
لا شكّ في أن تعقيد الوضع السوري وثقل ما يواجهه السوريون يومياً يجعلان تبدُّل الأولويات في القضايا العامة أمراً طبيعياً. فالناس منهكون، والجراح مفتوحة، والهموم المعيشية والسياسية لا تُعدّ. لكن إذا كان موضوع لباس البحر “غير مهم” كما يزعم البعض، فلماذا اختارت الحكومة السورية أن تصدر قراراً بتنظيمه في التوقيت نفسه لانعقاد مؤتمرها الكارثي حول “العدالة الانتقالية” الذي مُنح فيه المشتبه بتورطه بمجزرة التضامن فادي صقر صكّ أمان؟
الإجابة بسيطة ومكررة في تاريخ الأنظمة القمعية: جسد المرأة لم يكن يوماً هامشياً في سياسات السلطة، بل كان دائماً ميداناً للصراع والسيطرة. من إيران الخميني إلى سوريا الأسد، لطالما استُخدم جسد النساء كأداة لإعادة تشكيل المجتمع وفق رؤية السلطة سواء كانت دينية أو قومية أو أمنية.
حين أرسى الخميني دعائم حكمه الإسلامي، لم تكن أولى ضحاياه الأحزاب أو المعارضين فقط، بل النساء أيضاً، اللواتي فُرض عليهن الحجاب بالقانون، وما زلن حتى اليوم يواجهن الملاحقة لمجرد انكشاف خصلة شعر.
فرض لباس بحر ليس قراراً عابراً أو إجراءً إدارياً عادياً، بل خطوة أخرى في مسار طويل من قولبة المجتمع وفق مقاييس أخلاقية طبقية وجندرية، تميز بين من يستطيع الدفع ومن يُجبر على الالتزام. وهو يعيدنا دائماً إلى المعادلة القديمة ذاتها: من يملك السلطة على جسد المرأة، يملك القرار والسلطة على المجتمع بأسره.
في الدول الناشئة أو تلك الخارجة من صراعات طويلة، لا يُعاد تأسيس الدولة فقط عبر الدستور أو القانون، بل غالباً ما يتم ذلك عبر إعادة تشكيل المجتمع نفسه: عاداته، هوياته، وبُنى العلاقات داخله، فتتّجه بعض الدول لتكون أكثر انفتاحاً واهتماماً بالحريات الفردية بينما تفعل الأخرى العكس. في سوريا اليوم، تبدو هذه العملية واضحة، إذ يُعاد توزيع السلطة الاجتماعية بشكل يُعيد تثبيت الهيمنة الذكورية، ويمنح الرجل – كممثل للسلطة الأبوية – مكانة مركزية في الفضاءين العام والرسمي.
يكفي أن نُمعن النظر في المؤتمرات واللقاءات الرسمية، لنرى بوضوح هذا التوجه: غياب النساء شبه التام، وكأنهن غير موجودات أو لا يمتلكن الأهلية للمشاركة في صياغة القرارات أو الاتفاقات أو قيادة مستقبل البلاد. هذا الغياب لا يمكن فصله عن الرسائل الرمزية والسياسية التي تبعثها السلطة – عن قصد أو عن غير قصد – ومفادها أن الرجل وحده هو من يحق له تمثيل الدولة، والتحدث باسمها، وتحديد مصيرها.
ألم يلتقِ الرئيس الشرع بوفد نسائي مع زوجته لطيفة الدروبي من دون أن نسمع صوتها، إنما اكتفى هو بمدحها والحديث عن وقوفها إلى جانبه، لكننا لم نسمع قصة الزوجة هنا، والتي ربما اختارت ألا تتحدث، لكننا أمام دور سياسي للمرأة وعدم التحدث لا يمكن تفسيره إلا في هذا السياق، وهو أمر ينطبق على كلّ اللقاءات في سوريا، إذ من أصغرها وحتى أكبرها لا نسمع فيها سوى آراء الرجال.
فهل تصبح الهيمنة الذكورية جزءاً من مشروع إعادة بناء الدولة وأداة من أدوات الحكم وإعادة إنتاج الطاعة والسيطرة؟ تبدأ من جسد المرأة وتمتد إلى كل تفاصيل حضورها في الحياة العامة؟
قد تبدو هذه الإجراءات متفرقة وصغيرة الحجم، لكن ما يحدث في الواقع هو بناء ممنهج لمنظومة رقابة متصاعدة.
كيف تُقاس مشاعر المجتمع؟
على مدى سنوات الثورة والقمع، حُرم ملايين السوريين والسوريات من ارتياد شواطئ بلادهم، إما بفعل التهجير أو الخوف أو الفقر أو القوانين التي ضيّقت على الحركة. واليوم وبعد سقوط النظام، لا يأتي الفرج للسوريين من بوابة استعادة حرياتهم، بل من خلال تقنين صارم لشاطئ البلاد، وبذريعة الأخلاق العامة.
القرار الجديد جاء عبر وزارة السياحة، التي أصدرت لائحة تنظيمية تخص الشواطئ العامة، نصّت على ضرورة “الالتزام بالحشمة”، وهي عبارة فضفاضة تفتح المجال لتفسيرات لا نهائية. فقد ورد في نص القرار: “يُطلب من رواد الشواطئ والمسابح العامة من السياح والزوار على حد سواء الالتزام بارتداء ملابس سباحة مناسبة تراعي الذوق العام ومشاعر مختلف فئات المجتمع”.
لكن ماذا تعني “الملابس المناسبة”؟ وما هو “الذوق العام”؟ وكيف تُقاس “مشاعر مختلف فئات المجتمع”؟ هل المقصود هو فرض نمط محدد من اللباس، مثل البوركيني، تحت ستار احترام “الذوق العام”؟ أم أن هناك نية لحظر لباس معين كالبيكيني من دون التصريح بذلك صراحة؟
ما يعرفه السوريون والسوريات ممن ما زالوا يرتادون الشواطئ، أن هناك تنوعاً كبيراً في أنماط اللباس: بعض النساء يرتدين البوركيني، وأخريات البيكيني، وهناك من يخترن لباساً وسطاً مثل الشورت والتي شيرت، ما يعكس التنوعات الاجتماعية والدينية والثقافية التي لطالما كانت موجودة في سوريا. فكيف يمكن اختزال كل هذا التنوع تحت راية “الذوق العام”؟ ومن يملك تعريفه أو تحديده؟
الخطورة لا تكمن فقط في منع نمط معين من اللباس، بل في جعل المعايير الخاصة معياراً لصياغة القوانين. فحين تُترك القوانين لتُصاغ بحسب ما يُرضي “مشاعر” غير محددة لفئات غير واضحة، فإنها تصبح أداة لضبط السلوكيات الشخصية، ولإعادة قولبة المجتمع بما يناسب السلطة، لا الناس.
من جهة أخرى، شدد القرار على منع الرجال من “الظهور عرات الصدور” خارج أماكن السباحة، مثل المطاعم أو بهو الفنادق. وعلى رغم أن الأمر يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، إلا أنه يطرح سؤالاً أساسياً: أليس في ذلك شكل من أشكال الوصاية على أبسط تفاصيل الحرية الشخصية؟ ففي أماكن وُجدت أصلاً للاستجمام والتمتع بالبحر، بات حتى تناول الطعام مشروطاً بقيود معينة.
وربما يلخّص تصريح رئيس الدائرة الإعلامية في وزارة السياحة، عبد الله حلاق، لعنب بلدي، التوجه المتشدّد الرافض أي حرية لا تندرج ضمن رؤية الحكومة الأخلاقية والثقافية. فقد برر القرار بأنه يهدف إلى “الحفاظ على الآداب العامة” وتجنّب “خدش الحياء”، مشيراً إلى تخصيص أماكن منفصلة للعائلات المحافظة وأخرى للسياح الأجانب، في محاولة لتقديم صورة مزدوجة: داخلية محافظة وخارجية منفتحة، تخدم مصالح السياحة من دون السماح بانعكاسها على المجتمع المحلي.
الأكثر دلالة في تصريح حلاق، كان وصفه ارتداء ملابس السباحة النسائية (كالبيكيني) في الشواطئ العامة بأنه سبب “تشوّه بصري” لمعظم مرتادي هذه الأماكن. وهو توصيف صريح يختزل جسد المرأة بمصدر إزعاج أو تشويه بصري، ويعبّر بوضوح عن موقف السلطة من الحريات الجسدية. هكذا، تقرّر الحكومة – من موقعها الأبوي – أن سوريا “بلد محافظ”، وتمنح نفسها صلاحية تعريف ما هو مقبول أو غير مقبول من أنماط اللباس، وتحديد من يحق له الظهور في الفضاء العام، وبأي شكل.
هذا الخطاب لا يكتفي بتبرير القمع، بل يسعى إلى تطبيعه وتسويغه بوصفه منسجماً مع “الذوق العام”، متجاهلاً أن الحكومة، من موقع قوتها ومن شعورها بالانتصار، هي من تفرض هذا “الذوق” وتشكّله، فيتحوّل أي قرار تتخذه إلى حقيقة مطلقة في نظر المطبّلين، لا تُناقش ولا تُرفض.
قد تبدو هذه الإجراءات متفرقة وصغيرة الحجم، لكن ما يحدث في الواقع هو بناء ممنهج لمنظومة رقابة متصاعدة. إنها لعبة مكشوفة: تبدأ بقرارات تبدو عابرة أو مبررة، لكنها لا تتوقف عند هذا الحد. ومع مرور الوقت، تتسع هذه القواعد، تزداد صرامة، وتلتهم مساحات جديدة من الحرية. وقد لا يمر وقت طويل قبل أن يستيقظ الناس ذات صباح ليكتشفوا أنهم خسروا آخر ما تبقّى لهم من حقوقهم في التحكم بأجسادهم وسلوكهم واختياراتهم اليومية.