تكاد تكون مقايضات العفو مقابل كفِّ الأذى جزءاً جوهرياً من أي تعريف نزيه لـ«العدالة الانتقالية». فلا يخلو نموذج واحد من «قصصِ نجاحِ» هذا المصطلح من أمثلة على إحساس عشرات، أو مئات، أو حتى ملايين الضحايا بالحنق تجاه إفلات بعض المجرمين، أو الكثير منهم، من العقاب مقابل ضمان عدم تهديدهم لعملية سياسية هشّة أو لوضع اجتماعي حَرِج. الأرجنتين، جنوب أفريقيا، كولومبيا، تشيلي، رواندا، غواتيمالا.. كلها أمثلة متفاوتة الجودة لنجاحات «العدالة الانتقالية» وإخفاقاتها، تحفل بها الدورات التدريبية لمنظمات المجتمع المدني ومناهج تدريب الحقوقيين، وكلها، دون استثناء، حافلة بقصص الخذلان، وبمجرمين طلقاء (وبعض هؤلاء المجرمين قد يُكافَأون على دورهم في «حفظ السلم»)، وبملفات متروكة للنسيان في أسوأ الأحوال، أو للسينما والأدب وغيرها من الفنون في أحسنها.
العدالة الانتقالية هي إجراءات قضائية وقانونية، صحيح. ولكنها أيضاً، وأساساً في أغلب الأحيان، عمليات سياسية ووساطات مجتمعية وردُّ اعتبار وجبر خواطر وتعويضات معنوية ومادّية، وكلّ هذه الأخيرة ضرورية بالذات لأن أساس منطق «العدالة الانتقالية» أنها تجري حيث لا عدالة «حاف» ممكنة، إما لأن حجم الهول أكبر من أي مؤسسة قضائية ممكنة، أو لأن توازنات القوّة (أو توازنات الضعف بالأحرى) تقتضي مساومات مع جزءٍ من المجرمين الذين هُزموا لكنهم لم يفقدوا كامل قدرتهم على الأذى ربما، أو بحوزتهم ملفات أو معلومات قد تؤدي لدرء خطرٍ أكبر أو ملاحقة مجرمين أهم في هرمية السلطة، أو أخطر، أو أقل استعداداً منهم للمُسايسة.
لُبُّ «العدالة الانتقالية» هو، باختصارٍ تراجيدي، تفضيلُ ما يُؤلِم على ما يُفزِع، دون أن يكون الفارق واضحاً سلفاً في كثيرٍ من الأحيان. هي مسار متعرّج، غير مضمون ولا نهائي النتائج ولا مكان فيه للنبرات الانتصارية «إلى يوم القيامة». بَعدَ قانونَي عفوٍ شَنيعيَن في الثمانينيات، ومسارٍ طويل ومُضنٍ لعكسِهما في التسعينيات والألفينات، نجحَ بشكل باهر وحقَّقَ ملاحقات ومحاكمات للكثير من المجرمين وساهمَ في كشف مصير الكثير من الضحايا المُغيَّبين، يحكم الأرجنتين اليوم إنكاريٌ ترامبي لجرائم الحكم العسكري، ترافقه نائبة رئيس آتية من عائلة عسكرية انقلابية، بَنَتْ شهرتها بوصفها مناضلة مُرّة ضد «طغيان سردية» ضحايا الحكم العسكري. الأرجنتين كانت، حتى سنواتٍ قليلة جداً، قصة النجاح، بأل التعريف.
من داخل منطق «العدالة الانتقالية»، ليس هناك خلاف مفاهيمي أو نظري مهم ممكن مع حديث حسن صوفان، عضو لجنة السلم الأهلي، في مؤتمره الصحفي في دمشق أمس. فكلام الرجل عن الاضطرار للمساومة مع بعض المجرمين مقابل كفِّ الأذى وضمان السلم والاستقرار؛ وعن عدم تَوقُّع العدالة الكاملة من أي مسار «عدالة انتقالية» وإشارته إلى السموات وربِّها كمصدر أوحد للعدالة التامة؛ وعن أن مسار «العدالة الانتقالية» ليس إلا اجتهادات متتابعة قد تكون متعثّرة؛ وعن أن الشفافية ضرورية ولكنها ليست سهلة دوماً هو، بحرفيته، هو ألف باء ما يمكن سماعه من أيّ خبيرٍ رصين في الشأن. الشيخ حسن صوفان رصينٌ فعلاً ويحظى بالاحترام والثقة، لكن السجال هنا ليس مع شخصه، بل مع مكانه كعضو في لجنةٍ ثلاثية للسلم الأهلي، أُنشأت بقرار رئاسي، إلى جانب لجنة تقصّي الحقائق، بُعيد مجازر الساحل.
تُمارَس السلطة اليوم في سوريا انطلاقاً من رئيس فرد، يُصدر المراسيم والقرارات التي تنبع منها السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية المُزمَع إنشاؤها، والسلطة القضائية التي من غير الواضح كيف تُدار بغياب المجالس العدلية اللازمة لحسن سيرها؛ وتنبع منها أيضاً الهيئات واللجان الخاصة بـ«العدالة الانتقالية» و«السلم الأهلي»، والتي عُيّن الشيخ صوفان فيها. السلطة في سوريا اليوم تُوقِّعُ بروتوكولات وتمنح امتيازات استثمار لسنوات أطول بكثير من مدّة صلاحياتها «الانتقالية» التي وضعتها لنفسها. يجرى كل هذا بناءً على إعلان دستوري كُتِبَ على عجل، على يد لجنة عيّنتها الرئاسة نفسها، ووُقِّعَ في حفلٍ حضره أهل السلطة فقط، وبحضور «القيادة الروحية» للمسلمين السُنّة حصراً. سبق ذلك مؤتمر «حوار» حُضِّرَ ونُفِّذَ على غفلة وعجالة، وباحترام غائب لتنوّع شرائح السوريين والسوريات المختلفة جهوياً ومذهبياً وإثنياً وجندرياً، وقبل كل شيء «مؤتمر نصرٍ» تلغرامي، أعلن فيه ذكورٌ عسكر، جُلّهم إسلاميون، أنهم انتصروا وقرروا. ليس هذا وضعَ انتقال، بل بالأحرى استحواذ. وما تجري فيه من ترتيبات، بما في ذلك مساومات وضمانات واتفاقات هنا وهناك، هي استحواذية وليست انتقالية.
أحسنَ الشيخ صُوفان صنعاً بإصراره في حديثه على أولوية السلم الأهلي. لكن كلامه، غير المشكوك بصدق مُنطلقه، غير متّسق مع وقائع ما شهدته الأشهر السابقة، لا في صحنايا وجرمانا وعلى طريق السويداء، ولا بالذات مع العلويين قبل وخلال وبعد مجازر آذار المريعة. لم يحصل أي تعاطٍ علني وفعلي من قِبل السلطة مع الجماعة العلوية بوصفها جزءاً تكوينياً من هذا البلد، ولم تُدعَ لا هي ولا غيرها من الجماعات إلى أيٍّ من مؤتمرات ومراسم تشكيل السلطة في دمشق، ولم يُوجَّه لها إلا الازدراء والكراهية وتسويغ الإجرام بحقها في خطاب إعلاميي السلطة وضفافها. هل تعني «العدالة الانتقالية» على نموذج سوريا الجديدة أن العلويين الوحيدين الذين يحظون بعتبة احترام لحيواتهم ولكرامتهم، والذين يُصان الأمانُ الممنوح لهم، والذين تراهم السلطة وتخاطبهم وتتعامل معهم سياسياً، هم فادي صقر وخالد الأحمد، زميل الشيخ صوفان في اللجنة؟
كلام حسن صوفان، مجدداً، ليس فيه أخطاء كبيرة ضمن عوالم «العدالة الانتقالية» المفاهيمية المجرّدة. لكن نجد فيه مشكلتين سوريتين، الأولى كبيرة: أننا لسنا في وضع انتقالي حقيقي في سوريا كما أسلفنا، بل نعيش مساراً انفرادياً لتشكيل سلطة انطلاقاً من واقع مُدمَّر وبأدوات وموارد محدودة، وبتوجّه نرى مع مرور الوقت كم هو استبعادي للسوريات ولغير العرب-السنّة؛ والثانية أكبر: أنه يضع الاضطرارات من نوع المُسايسة مع المجرم فادي صقر وغيره حصراً في خانة «قرارات القيادة»، التي من مكانها الفوقي المنفرد تعلم ما لا نعلم، وبالتالي لا تُناقَش، وليس كنتيجة جهدٍ واجتهاد جماعييَن، ومشاركة في القرار وفي تبعاته؛ كما لا ترافق هكذا قرارات أي جهود أوسع يحضر فيها البُعدان السياسي والمجتمعي لـ«العدالة الانتقالية». تقتضي «العدالة الانتقالية»، وقبلها المنطق الانتقالي بحدّ ذاته، بعضَ الاعتراف المتواضع بمحدودية القدرة وبالحاجة للتكاتف، والإقبال على السياسة، وقبل كل شيء الاستعداد للاحترام ولقدر ما من الندّية، وبالتالي لا تقرر بشأنها «قيادة» منفردة، بل تقتضي عملية معقّدة وصعبة من السعي للتوافقات والإجماعات، تبدأ حكماً من مؤتمر وطني جامع وحقيقي، تحضر فيه كل تنوّعات السوريين والسوريات، جهوياً وجماعاتياً وإثنياً وسياسياً، وتنبثق عنه مجالس وهيئات جماعية كاملة الأهلية وتحظى بأكبر قدر ممكن من احترام وثقة أوسع قدر ممكن من السوريين والسوريات، وبالذات من العلويين في حالتنا السوريّة. هذه الآليات الجماعية، وليس القرارات الفوقية المنفردة، هي الإطار الأنسب لمناقشة قرارات مؤلمة، من نوع العفو الاضطراري عن مجرمين كبار منعاً لأذىً أكبر؛ وهي الأوسع حيلة للخوض في مساومات صعبة وتحصيل ما لا يمكن تحصيله بالأمر والنهي من علٍ؛ وهي الأفضل موقعاً لجبر خاطر الضحايا واحتضانهم والحصول منهم على تفهّمٍ للألم الذي لا بد من تفضيله على الفزع.
على عكس ما يُريه الاطمئنان المبالغ به الذي يبديه المتحمسون للسلطة، خاصةً بعد رفع العقوبات الأميركية، سوريا اليوم ما زالت شبكة من توازنات الضعف والـ«على مضض»؛ وتحت خطر موجات متتالية من العنف العاصف، منها ما قد «يُسيطَر» عليه ويُدار، ومنها ما قد يخرج عن السيطرة. البلد بحاجة لمسار عدالة انتقالية حقاً، بكل ما في المفهوم من مشاكل وتناقضات ونواقص؛ وبحاجة للحظات اختيار كثيرة بين الألم والفزع، على عكس ما يُطالب به جذريو العدالة الغاضبون على وسائل التواصل، بغضبٍ محقّ كمشاعر ولو أنه بحاجة لتوجّه أكثر تأنّياً وتركيباً، كأفكار وكسياسة.
ليست هناك عدالة تامة ممكنة لسوريا ولأهلها، الشيخ حسن صوفان محقٌ هنا، وتركة الأسدين اللعينة علينا، نحن مَن نجونا، هي أن نموت متفحّمي القلوب، وحَسبُنا أن نَحِنَّ لمستقبلٍ تكون قلوب من يأتون ويأتين بعدنا أقل اضطراراً للألم والفزع وللمفاضلة بينهما. شرطُ مسار العدالة الانتقالية، التي تحتاجها سوريا فعلاً، هو عملية انتقال سياسي حقيقية، بمحاولات جدّية لتحقيق إجماعات وتوافقات عريضة وحقيقية بين متنوعين ومتخاصمين، يحضر فيها الجميع ويشارك فيها أكبر قدر ممكن من الناس، وبكل ما يلزم من احترام وندّية وأمان، مهما استغرقت من الوقت، ومهما أخذت من الجهد.. لكل ذلك، سوريا بحاجة لمؤتمر وطني تأسيسي حقيقي، أولاً وقبل أيّ شيءٍ آخر.
مقالات مشابهة