فرصة جديدة وسط الانفتاح الدولي
غياب برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج يشكّل تحديًا جوهريًا في سوريا ما بعد الأسد، خاصة مع تسريح أعداد كبيرة من المقاتلين، معظمهم من الطائفة العلوية. وفي ظل الانفتاح الدولي ورفع العقوبات، تبدو هذه البرامج ضرورة ملحّة لضمان الاستقرار ومنع تجدد العنف، وتمهيد الطريق لبناء دولة جديدة أكثر شمولاً وأمانًا.
دمشق – يواجه المشهد السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد شبكةً من التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة والمتشابكة.
وتسعى الحكومة الانتقالية جاهدةً لبناء دولة مختلفة جذريًا وإطلاق عملية إعادة إعمار شاملة، مدعومةً بمشاركة دولية متزايدة، لاسيما بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا.
وبينما أتاح هذا التحول فرصا جديدة أمام الحكومة للاستفادة من إعادة المشاركة الدولية، طرح أيضًا التزامات محلية أكثر تعقيدا، أبرزها إطلاق برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، إلى جانب إصلاح قطاع الأمن على نطاق أوسع.
ويبرز غياب برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج كأحد أكثر التحديات إلحاحًا. ولا تزال الحاجة إلى مثل هذه البرامج بالغة الأهمية لضمان الاستقرار، ومنع تجدد الاضطرابات أو الانزلاق إلى العنف، وتوفير الحماية الكافية لجميع المجتمعات السورية، وأبرزها الطائفة العلوية التي تواجه ظروفًا حرجة للغاية في أعقاب التسريح الجماعي للعسكريين من صفوفها. كما ستلعب جهود نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج دورا رئيسيا في تهيئة بيئة آمنة لعودة اللاجئين.
وأصبح تفعيل برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج ضرورةً مُلحة في ظل رفع العقوبات وتجدد الزخم الدولي لدعم الاستقرار في سوريا. وتُعدّ هذه البرامج بالغة الأهمية لمعالجة الأوضاع الهشة للمجتمعات التي اعتمدت طويلًا على الهياكل العسكرية في معيشتها وهويتها الجماعية، وعلى رأسها الطائفة العلوية. فدون حلول مؤسسية عادلة ومستدامة، يظل خطر العودة إلى التمرد أو تجدد العنف مرتفعًا، ما يُقوّض آفاق المصالحة الوطنية.
برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج ليست حلاً سحريًا، ويعتمد نجاحها على بيئة داعمة تضمن استدامتها
وشكّلت الطائفة العلوية -الأقلية السورية التي تنتمي إليها عائلة الأسد- العمود الفقري للجهاز العسكري والأمني في ظل النظام السابق. ومع انهيارها سُرّح مئات الآلاف من الجنود -معظمهم من العلويين- دون أن تُتاح لهم مسارات بديلة، لاسيما في ظل تدهور الوضع الاقتصادي وانعدام فرص العمل شبه التام.
واقتصرت استجابة الحكومة الانتقالية على إجراء عمليات التسوية ونزع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وترك الأسلحة الثقيلة في ساحات القتال، دون إنشاء إطار مؤسسي شامل قادر على استيعاب هذا العدد الكبير من الأفراد المسرحين، أو تزويدهم ببدائل قابلة للتطبيق لمنعهم من الانزلاق إلى العنف المسلح -وهو تعهد، حتى لو كان مرغوباً فيه سياسياً، يقع حاليا خارج نطاق قدرات الحكومة.
وعلاوة على ذلك أنشأ بعض الضباط والقادة العلويين السابقين ميليشيات مسلحة شنت عمليات عنيفة في أوائل مارس 2025.
وأثارت هذه الأعمال عنفًا انتقاميا، ما أسفر عن مقتل العديد من المدنيين -بمن فيهم علويون وسنة وآخرون من المجتمعات الساحلية السورية- بالإضافة إلى مئات من أفراد الأمن والجيش. وقد رسخت الاشتباكات حالة من انعدام الأمن المستمر حتى يومنا هذا.
وفي حين أن قادة النظام المتبقين قد يكونون مدفوعين بدوافعهم الخاصة -مثل التهرب من العدالة الانتقالية واستغلال الخطاب الطائفي لتصوير أنفسهم كحماة للمجتمع العلوي ضد الحكومة الانتقالية- إلا أن غياب برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج لا يزال يغذي هذه الميليشيات بتجنيد مجندين جدد.
ويرى الباحث في مركز عمران للدراسات الإستراتيجية محسن المصطفى في تقرير نشره المجلس الأطلسي أن هذه الديناميكية حوّلت الوضع إلى نمط من التمرد المتقطع وفتحت الباب أمام جهات إقليمية مثل إيران للتدخل وتفاقم عدم الاستقرار.
لا يمكن لسوريا أن تطوي صفحة صراعها بالكامل إلا إذا وضعت ضمانات واقعية لمنع تجدد العنف أو انجراف المقاتلين المسرحين نحو التمرد
وسيظل الاستقرار الدائم في المناطق ذات الأغلبية العلوية -وفي أماكن أخرى- بعيد المنال ما لم تُطرح حلول مستدامة لإعادة إدماج الأفراد اقتصاديًا واجتماعيًا في نسيج الدولة الجديدة.
وفي ظل الانفتاح الدولي المتزايد والرغبة في دعم استقرار سوريا، تبرز برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج كركائز أساسية لبناء سلام دائم. وتكمن قيمتها في قدرتها على الحد من انتشار الأسلحة وتقليل خطر الصراع الداخلي، لاسيما في المناطق التي شهدت توترات طائفية أو قبلية. كما أنها تساعد في معالجة الأسباب الجذرية للصراع من خلال توفير مسارات بديلة قابلة للتطبيق للمقاتلين السابقين.
ودعم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي برامج مماثلة في ليبيريا وكولومبيا، استنادًا إلى معايير نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج المتكاملة للأمم المتحدة. وتُعدّ هذه البرامج، التي تُنفّذ بالتوازي مع عملية العدالة الانتقالية، آليةً أساسية.
وفي السياق السوري تُسهم مسألة المقاتلين المسرحين من الطائفة العلوية وغيرهم ضمن إطار وطني موحد في تعزيز الثقة بين مختلف مكونات سوريا، ما يضمن عدم شعور أي فئة بالاستهداف على أساس خلفيتها السياسية أو الطائفية. كما تُظهر هذه البرامج جدية الحكومة الانتقالية في معالجة الشواغل الأمنية والإنسانية، وتمهيد الطريق لجذب الدعم الدولي، وتأمين التمويل اللازم لتنفيذ خطط التنمية وإعادة الإعمار.
ويتجاوز تأثير برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الاستقرار الداخلي؛ فهو يُمثل أيضًا مدخلًا لخلق بيئة آمنة تُعيد بناء ثقة اللاجئين بعودة آمنة. وبذلك يُسهم في إعادة تموضع سوريا كدولة آمنة، قادرة على إعادة دمج مواطنيها، في الداخل والخارج، وفي ظل ظروف كريمة وطوعية.
ومع انتهاء العقوبات الغربية على سوريا وعودة الدعم الخارجي لعملية بناء الدولة، تُواجه الحكومة الانتقالية الآن فرصة نادرة لمعالجة اختلالات فترة ما بعد الصراع.
ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح الدولي لا يضمن الاستقرار تلقائيًا ما لم تُصاحبه تدابير محلية جادة، وعلى رأسها إطلاق برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج.
ولا يقتصر التحدي الحالي على نقص التمويل فحسب، بل يشمل أيضًا غياب الهياكل التنفيذية القادرة على استيعاب مثل هذه البرامج، وضعف التنسيق المؤسسي، وتزايد المخاطر الأمنية التي تُشكلها القوى المحلية الخارجة عن السيطرة من فلول النظام أو الجماعات المدنية ذات الخلفية الثورية.
الحكومة الانتقالية تُواجه الآن فرصة نادرة لمعالجة اختلالات فترة ما بعد الصراع
الحكومة الانتقالية تُواجه الآن فرصة نادرة لمعالجة اختلالات فترة ما بعد الصراع
وتُصبح برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج أداةً محوريةً ليس فقط لاستعادة الأمن، بل أيضاً لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وتمهيد الطريق لإعادة إدماج وطني حقيقي.
ولا يمكن لسوريا أن تطوي صفحة صراعها بالكامل إلا إذا وضعت ضمانات واقعية لمنع تجدد العنف أو انجراف المقاتلين المسرحين نحو التمرد.
وبالتالي لا يمكن إكمال عملية إعادة الإعمار بعد الأسد دون معالجة جذرية لمجموعة من القضايا الحساسة، وعلى رأسها نظام العقوبات والدور الحاسم لبرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج في إرساء أسس الاستقرار وضمان حماية الأقليات، كضرورة محلية ومسؤولية دولية.
ومع ذلك، فإن برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج ليست حلاً سحريًا على الرغم من أهميتها الإستراتيجية. ويعتمد نجاحها على بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية داعمة، تضمن استدامتها.
وهذا يتطلب إطارًا متكاملًا للعدالة الانتقالية، والإنعاش الاقتصادي، والمشاركة الشاملة لجميع مكونات المجتمع في رسم مستقبل البلاد.
ودون هذا التماسك تُواجه مبادرات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج خطر الفشل أو الاستقطاب أو فقدان دورها المنشود كأدوات لبناء الثقة والاستقرار على المدى الطويل. ويجب عدم إهدار الفرصة الحالية المدعومة بدعم دولي واسع.
وسيمثل عدم تفعيل هذه المسارات انتكاسة خطيرة لمستقبل سوريا، وقد يفتح الباب مجدداً أمام تجدد الصراع وعودة التطرف.
وفي المقابل إذا نجحت الحكومة الانتقالية في تفعيل برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، وحشد الدعم الدولي لإعادة تأهيل المجتمع ودفع عجلة التنمية، فقد يُمثل ذلك نقطة تحول محورية في تاريخ سوريا الحديث.
وبذلك ستتمكن البلاد من حماية حقوق الأقليات والنهوض بها ضمن دولة جديدة تمارس سلطتها بإنصاف وعدل، وفقاً لمبادئ المواطنة، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع السوريين. وهذا من شأنه أن يُمهد الطريق لعقد اجتماعي متجدد يُمكّن السوريين من استعادة إيمانهم بوطنهم وبمستقبل مشترك واعد.