Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • هل الملابس بُعد خامس للإنسان؟ باسم سليمان….المصدر: ضفة ثالثة
  • مقالات رأي

هل الملابس بُعد خامس للإنسان؟ باسم سليمان….المصدر: ضفة ثالثة

khalil المحرر يونيو 14, 2025

تسرد التوراة بأنَّ آدم ستر عورته بورقة تين بعد الخطيئة (الأصليّة)، ظنًّا منه أنّه قادر على النجاة من عين الإله الفاحصة واسترداد طهارة مفقودة. منذ ذلك الوقت والإنسان يرى في ملابسه دلالات متنوعة وأبعادًا مختلفة تتجاوز الحماية من القرّ والحرّ حتى أنّها قد تمنحه هوية أخرى.
انتشرت خرافة مجتمعية في أوروبا في القرن السادس عشر تقول بأنّ ارتداء قطعة من الفرو مع الثياب ستُقنع البراغيث بالانتقال من جسد الإنسان إليها، ممّا يسمح بالتخلّص من لدغاتها. وفي مقلب آخر، أثبتت دراسة بيولوجية أنّ القمل الذي يتطفّل على الجسد البشري والذي تطوّر عن نوع آخر من القمل يعيش على الحيوانات، لا يمكن له أن يبقى حيًّا على الجسد الإنساني المضيف من دون ثياب، وقد ساهمت هذه الدراسة في تحديد عمر قمل الجسد الإنساني، إذ يعود إلى أكثر من مليون سنة، فتم الافتراض بأنّ الإنسان قد بدأ بكساء جسده منذ تلك الأزمنة بملابس من أعشاب وجلود، حتى بات يرتدي الأقمشة. هاتان الواقعتان التاريخية والبيولوجية تلمّحان إلى أنّ التبادل الدلالي سيتجاوز العلاقة المادية البحتة التي تقوم بين الجسد الإنساني وما يرتديه من ملابس، حيث تصبح الملابس حمّالة دلالات كثيرة، فلا تقوم فائدتها على حماية الجسد من الحرّ والقرّ وستر العورة فقط، وإنّما كما يقول العالم الاجتماعي البريطاني هربرت سبنسر: “لم تنشأ الملابس للوقاية من برد، ولا طلبًا للحشمة، بل لسبب مختلف تمامًا. في المجتمعات البدائية، بعد أن كان الصياد الماهر يصطاد فريسته، لم تكن له وسيلة للتعبير عن مأثرته والتباهي بإنجازها أمام الجماعة أفضل من أن يسلخ الطريدة، ويغطي جسده بفروها أو جلدها، لكي يستعرض تفوّقه على أقرانه الأقل مهارة وقوة”.
إذن الملابس من أبرز التعابير الحضارية والثقافية للإنسان، فهي مظهر مهمٌّ لشخصية الفرد ورمز من رموز انتمائه إلى مجتمعه، فهي متعدّدة الأشكال والأنواع، مليئة بالدلالات والمعاني ومرتبطة بالطبقات الاجتماعية وبالمهن والحرف والمذاهب والعقائد والأفكار والأحلام والجنس. وأمام هذا البعد المتجذّر للملابس في حياة الإنسان ألمح الروائي جورج أورويل في كتابه “الطريق إلى رصيف ويغان” إلى بعدها الذاتي والاجتماعي والاقتصادي، حيث رصد في كتابه الظروف الاجتماعية الكئيبة والاقتصادية الصعبة في مدينة لانكشر شمال بريطانيا عام 1937 فيقول: “قد يكون لديك ثلاثة أنصاف بنس في جيبك ولا أمل في الدنيا، لكن بملابسك الجديدة، يمكنك الوقوف في زاوية شارع، منغمسًا في حلم يقظة خاص بك، مثل كلارك غيبل – ممثل مشهور- أو غريتا غاربو- ممثلة مشهورة”. وما يقصده أورويل أنّ الملابس قادرة على إعطائك هوية أخرى وتنقلك من طبقة مجتمعية إلى أخرى، ولربما جبّت هويتك القديمة كليًّا، والأحرى أنّ الملابس تصنع هويتك الذاتية بشكل مستمر، وكأنّه يعيد قراءة معضلة سفينة البطل ثيسيوس الإغريقي، فبعد عودته من رحلة مظفّرة كرّمته مدينته، بأن أبقت سفينته راسية في الميناء كشاهد على يوم عودته العظيم، لكن مع الوقت بدأت تتهرّأ بعض قطع السفينة تباعًا، إلى أن أصبحت سفينة ثيسيوس سفينة أخرى بعد عمليات الإصلاح المتكرّرة. وهنا يكمن السؤال الفلسفي عن الهوية؛ ما الذي يحدّدها! هل هو المظهر أم الجوهر، أو الناظر أم المنظور إليه؟ إنّنا نشبه سفينة ثيسيوس في علاقتنا مع الملابس، أو ذلك الرجل الواقف على زاوية شارع حيث استطاعت ثياب جديدة أن تنقذه من وصف سكان مدينة لانكشر البائس وأن تمنحه هوية أخرى وأملًا بحياة طيبة!
إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرتدي الملابس، حتى أنّ العالم ديزموند موريس أطلق عليه تسمية “القرد العاري”. ويذهب بعض الداروينيين إلى أنّ العري الذي ميّز جلد الإنسان عن بقية الرئيسيات من القردة كان خيارًا تطوريًّا، فالجلد العاري يسمح للإنسان بأن يكون أكثر تأقلمًا مع بيئاته المتنوعة وقادرًا على الانتقال المتبادل بين محيط بارد ومحيط حار بمجرد أن يخلع ملابسه أو يرتديها. تحكي أسطورة دينية عربية، بأنّ آدم كان مكسوًّا بجلدٍ يشبه مادة الظفر البشري لا يحتاج معه إلى ستر عورته ولا تنال منه عوامل الطبيعة المتغيّرة، لكن بعد الخطيئة انحسر هذا الجلد ذو الطبيعة الظفرية ليغطي رأس أنامل أصابعه فقط. لقد وعى الإنسان سريعًا عريه بعد الخطيئة، فطفق يخصف على نفسه من ورق الجنّة، ولقد أضافت التوراة بأنّ الإله قام بقتل حيوان وخياطة جلده كلباس لكل من آدم وحواء.

ماركس: اكتشف سحر السلعة وهو يرهن معطفه (Getty)

نستطيع أن نقرأ هذا القصّ الديني كتفسير للحظة التي أدرك فيها الإنسان مفارقته للحيوانات، وأنّه حيوان ليس كالحيوانات، ممّا اقتضى علاقة مختلفة مع عريه الجسدي الذي لا يستطيع أن يعرضه ببساطة أمام الآخرين. وأكثر من ذلك وجد في عريه وسيلة تأقلم غير محدودة، فالظفر هو إحدى هيئات المخلب أو الحافر الذي يميّز الحيوانات وبقاؤه إشارة إلى أصل الإنسان الحيواني، وفي الوقت نفسه تذكارًا من جنّة وجد فيها لبرهة من الزمن، وكأنّ الظفر الذي هو من مصدر (ظَفَر) والذي يعني الفوز والنجاح والغلبة، يذكر الإنسان بأصله الحيواني وضمنًا قدرته على الارتقاء فوقه. يدعم توجهنا في هذا التفسير أسطورة ثيسيوس الذي قتل المينوتور (نصف إنسان ونصف وحش) لكن كيف استطاع فعل ذلك. لقد كان المينوتور يعيش في متاهة لا أحد يعرف لها مخرجًا وعندما تقدم البطل ثيسيوس وولجها زودته حبيبته (أريادن) بكرة صوف ثبّت خيطها في بداية المتاهة، ودخل يجرجر خيط كرة الصوف خلفه، وبذلك سيجد طريق الخروج ثانية. تكمن الفكرة في كرة الصوف، بأنّ الثياب تنسج منها، وبالتالي تعني الأسطورة بأنّ الثياب هي التي تفرق بين الإنسان والوحش. وعلى نفس المنوال كانت بينلوبي زوجة أوديسيوس في غيابه تنسج الصوف الذي يميّز بين عالمها الإنساني عن العالم المختلف اللاإنساني الذي تاه فيه أوديسيوس. إذن بقدر ما الإنسان صانع ألبسة، تعيد هذه الألبسة تشكيل هويته، فالألبسة ليست أردية صامتة بل متكلمة، فالأديان تفرض على معتنقيها ثيابًا معينة تعكس معتقداتها في الحلال والحرام والتواضع وعدم التبجّح والتفاخر، والسياسة تفعل المثل، ففي أثناء الثورة الفرنسية كان الأرستقراطيون هدفًا للثوار بسبب ثيابهم المميّزة، ممّا دفعهم إلى استبدالها بثياب العامة كي ينجوا، حتى قيل: “بأنّ الثياب هي الرجل”.
الاقتصاد المخبأ في معطف غوغول

لم يكن الروائي الروسي إيڤان سيرجييفيتش تورغينيف مخطئًا عندما قال: “كلّنا خرجنا من معطف غوغول”. أمّا قصة المعطف لنيقولاي غوغول، فتسرد حكاية الموظّف الفقير (أكاكي أكاكيفتش) وكفاحه المرير من أجل أن يستبدل معطفًا جديدًا بمعطفه المهترئ الذي أصبح يشبه ثياب المتصوّفة لكثرة الرقع فيه، وما إن تحقّق حلمه بعد معاناة كبيرة حتى سُرق منه المعطف ومات من البرد من دون أن يدري أحد عنه شيئًا. لقد كان مقصد تورغينيف على الأقل ظاهريًّا يتعلّق بأنّ قصص غوغول هي ألف باء الأدب الروسي، لكن لنا أن نتجاوز تفسير تورغينيف ونرى في المعطف استبدادية النظام الاقتصادي الرأسمالي، فالإنسان محكوم بدورة اقتصادية تحدّد قيمته، وعادة ما تظهر بنوعية ملابسه التي تبرز طبقته الاجتماعية أيضًا. ولأنّ السيرة سيرة المعاطف لا بدّ أن نذكر أن أكاكي أكاكيفتش قد تقمّصه كارل ماركس، ففي إحدى الحوادث التي جرت مع ماركس وذكرها في مقدمة كتابه “رأس المال” حيث كان يتكلّم عن الطبيعة المشوَّهة للسلعة في الاقتصاد الرأسمالي وكيف تتم سرقة جهد العامل، ذكر أنّه كان بحاجة للنقود – هذه كانت حاله دائمًا، لولا صديقه فريدريك إنجلز الذي كان يقرضه بعضًا من المال- قام ماركس برهن معطفه في مقابل بعض النقود، لكنّه وجد أنّه من دون معطفه الذي يمنحه صورة لائقة غير مسموح له دخول قاعات المطالعة في لندن.

“الملابس ليست مجرد كساء للجسد، بل أسلوب حياة يعبّر عن موقعنا في الوجود وموقفنا منه، فهي تحمل أسرارنا وتكشف أكثر مما نرغب عن أنفسنا”

 

لقد كانت جميع السلع، بما فيها المعاطف، كما بدا لماركس، أشياء غامضة، محمّلة بمعانٍ غريبة تستمد قيمتها لا من العمل المُستَثمَر في إنتاجها، بل من العلاقات الاجتماعية المجرّدة والتنافسية للرأسمالية. لاحظ ماركس الطريقة المنحرفة التي يمكن بها للسلعة، بدورها، أن تستولي على صفات الإنسان وتقلّدها، كما لو كانت تمتلك حياةً خاصة بها. تُجسّد الملابس هذه الملاحظة ببراعة، فالسعي لاقتناء أحدث الأحذية الرياضية، أو الفساتين ذات الماركات العالمية يسيطر على عقول الناس، ويعيد تشكيل صورتهم عن ذاتهم. لقد رفض ماركس هذا التمجيد الاستهلاكي للسلعة في الثقافة الحديثة، وكان يستخدم الكلمة البرتغالية (feitiço)، والتي تعني السحر أو الشعوذة، تعبيرًا عن هذا التمجيد للسلعة، وكأنّه يشير تحديدًا إلى ممارسة عبادة الأشياء التي كانت سائدة في غرب أفريقيا، كما شهدها بحارة القرن الخامس عشر، حيث كان المتعبّدون ينسبون إلى الأشياء أو السلع أنواعًا مختلفة من الخصائص السحرية. وعلى نحو مماثل، بدا لماركس أنّ الرأسمالية الحديثة تمنح السلع هذا التمجيد السحري، ولم تكن الملابس بمنأى عن هذا التعبّد الزائف. فنحن نشيد بالأحذية والفساتين والسترات والحقائب، كما لو كانت تمتلك قوة فطرية، أو روحًا؛ ونمنحها قصصًا وحياة وهويات، وبذلك نطمس أصولها الحقيقية وهوياتنا في الوقت نفسه.

 

اللحظة الأيقونية لمارلين مونرو: فستان أبيض يرقص مع الريح فوق منفذ مترو الأنفاق، يحمل في طياته ثورة ضد قناعات فلسفية ودينية تقليدية (Getty)

لقد لحظ غوغول سطوة التعريفات المجتمعية التي تفرضها الملابس على مرتديها، والتي لا يمكن الفكاك منها أبدًا، ما دامت الملابس أصبحت جلدًا آخر للإنسان اكتسب شرعيته من الحاجات المادية التي تؤمّنها للقرد العاري. وعلى نفس النهج من القيم المعنوية والمادية التي تكتنزها الملابس في ثناياها، نحلّل إحدى قصص شارل بيرو (القط ذو الحذاء) الذي كان من نصيب أحد الأبناء من إرث أبيه الذي أوشك على الموت. احتجّ الشاب على تلك القسمة الضيزى بينه وبين أخوته لكنّه خضع للأمر، ولم تمض إلّا فترة قصيرة حتى حوّله القط ذو الجزمة إلى غني. لقد صمتت القصة عن السرّ الذي يملكه ذلك القط، لكن عنوانها كان كافيًا، فقطٌّ ينتعل جزمة قادر على أن يكون بذكاء وخبث إنسان عركته الحياة، فالجزمة دليل سلطة! ونجد الأمر ذاته مع قصة سندريلا حيث يكون الحذاء البلوري الذي يناسب قدمها هو الدليل الصارخ على أنّها تلك الفتاة التي سحرت الأمير في ذلك العشاء الراقص في قصره. ولا يختلف الأمر مع قصة “فرخ البط القبيح” لهانز كريستيان أندرسن، فلقد رفض هذا الفرخ من مجتمع البط، لأنّه كان يختلف عنهم بالهيئة، ولنقل بأنّه كان لا يرتدي معطفًا يسمح له بولوج المكتبات العامة. عبر التاريخ كانت المجتمعات تتميّز بملابس خاصة بها ومن يتجاوز عادات الملابس وأعرافها يُرفض كفرخ البط القبيح، بل إنّ السياسات الديكتاتورية فرضت على الأفراد أنماطًا من الملابس والهيئات لترى من هو مطيع ومن هو متمرّد، فالملابس هوية فوق هوية.

أنا أرتدي ملابس إذن أنا موجود

هذا العنوان الفرعي هو تحوير مقصود لمقولة ديكارت الشهيرة، والسؤال هل اهتمت الفلسفة يومًا بالملابس وجعلتها في دائرة موضوعاتها، يقول الفيلسوف نيكولاس باباس/ Nickolas Pappas: “عاجلًا أم آجلًا، يصبح كل شيء محل اهتمام الفلسفة”. لا ريب في أنّ الفلسفة من سقراط إلى زمننا قد لحظت موضوع الملابس، لكنّها لم تضعها في حسبانها، لربما لأنّ الحقيقة (الأليثيا) كما كانت تصوّرها الثقافة اليونانية عارية، فالمظاهر إن جاز لنا القول هي صيغة لعالم المحاكاة الذي ازدراه أفلاطون واتبعه الفلاسفة والأديان أيضًا في ذلك، وكأنّ دلالات الألبسة حُصرت فقط في جوانبها المادية كالحماية من الحرارة والبرد والحشمة ورفض أي دور آخر لها، بل تم نبذه وتهميشه. لم يكن لدى أفلاطون أي مانع أن يلعب الرجال والنساء عراة في (الجمانيزيوم) والذي يعني مكان التفكير والتدريب، أكان فكريًّا أم جسديًّا، فبالنسبة لأفلاطون التدريب الجسدي يعدّ استكمالًا للتفكير العقلي، وبما أنّ التفكير الفلسفي يسعى نحو الأليثيا/ الحقيقة، فارتداء ثياب حتى لستر العورة في التدريب الجسدي يعتبر خيانة للحقيقة لأنّ المتدرِّب عليه أن يترفّع عن شهواته. الحقيقة العارية من المظاهر هي الغاية القصوى للفلاسفة وهذا ما تعبّر عنه قصة “ملابس الإمبراطور الجديدة” لهانز كريستيان أندرسن وفحواها أنّ محتالين أقنعا الإمبراطور بأنّهما سينسجان له ثوبًا لم يُر له مثيل. والحقيقة أنّهما لم ينسجا شيئًا، ومع ذلك ظهر الإمبراطور بثيابه الجديدة الوهمية، لكنّه كان عاريًا. وهنا أبدت رعيته إعجابها العظيم بملابسه الجديدة، إلّا طفل صغير صرخ: “لكنّ الإمبراطور عارٍ”. وبالتالي إنّ الاهتمام بالملابس بنظر الفلسفة والدين سيكون نوعًا من الرياء، لأنّها ستجد من يمدحونها لقيمتها الخلبية لا فائدتها العملية، إلّا طفل مثل الأليثيا.
إنّ تقليد ازدراء الملابس الذي خطّه أفلاطون نجد أصداءه مع الفلاسفة من بعده، فكانط أهمل التفكير في الملابس وخاصة الموضة التي بدأت إرهاصاتها بالتشكّل في زمنه قائلًا عنها أنّها: “سخيفة” والسبب في ذلك كان اهتمامه بالجوهر والمضمون في مقابل المظاهر. كذلك أوضح الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد طريق الفلسفة كيف يكون: “لكي يسبح المرء عليه أن يخلع ملابسه بالكامل – وللسعي إلى الحقيقة، عليه أن يخلعها -أي المظاهر- بمعنى أعمق بكثير”. إنّ حقيقة معرفة الذات تتطلّب التخلّي، والتجرّد من الملابس المجازية، وكذلك من جميع الانشغالات المادية والغرور، فالملابس الخارجية الصارخة تحجبنا عن حقيقتنا الداخلية العارية، هكذا شرح كيركغارد. أراد مارتن هايدغر صياغة مفهوم الأليثيا الكلاسيكي، بشكل جديد لأنّه رفض فكرة التجلّي الصارخ للحقيقة المجردة، وإنّما تصوّرها كشيء أشبه بإدراكٍ بطيءٍ لما هو موجودٌ بالفعل، وبالتالي لم يعارض بأن الملابس قد تكون حجابًا يمنعنا من معرفة الحقيقة.

“في المجتمعات البدائية لم تنشأ الملابس للوقاية من البرد أو طلبًا للحشمة، بل ليتباهى الصياد الماهر بفريسته أمام الجماعة، مغطيًا جسده بفروها”

 

أمّا فلسفة فريدريك نيتشه المتمرّد جذريًّا على التقاليد الفلسفية، فقد قدّرت المظهر/ الملبس، كوسيلة نلعب بها لكي نسقط الأفكار المُسلّم بها، لكن مع ذلك، لا تزال اهتمامات الفلسفة تتعارض مع فكرة أنّ الملابس تمنح مرتديها هوية أخرى إن جاز التعبير. لربما تحتاج الفلسفة للتحليل النفسي الفرويدي كي تخرج من تعنّتها نحو الملابس وربيبتها الحديثة الموضة. عندما درس سيغموند فرويد النفس البشرية وجدها تتألّف من ثلاثة أقانيم: (الهو- الأنا- والأنا الأعلى) وإذا اعتبرنا الهو هو الأليثيا، والأنا هي الملابس، والأنا الأعلى هي التقاليد والقوانين والأعراف المجتمعية تصبح الأنا/ الملابس وسيلة حوار بين الهو/ اللاشعور والأنا الأعلى. هذا لا يعني أن الملابس هي الذات، بل إنّها تشير بشكل استكشافي، إلى أنّ تجاربنا مع ذاتنا تحدّدها أشياء كثيرة، بما في ذلك الملابس. إنّ الأحكام الفلسفية التي تدعونا لأن نتجاهل الاهتمام بالمظاهر كالملابس على سبيل المثال، تُشكل عقبة أمام فهمنا للوجود. وكما تقول سوزان سونتاغ، على العكس من أفلاطون: “ربما لا يوجد تعارض بين وجودنا الحقيقي وأسلوب ظهورنا في الواقع، لأنّ الظهور هو الطريقة الأنسب لنا، التي نتجلى فيها في هذا الوجود”. وما تقصده سونتاغ أنّ سفينة ثيسيوس ظلت في جوهرها هي هي، على الرغم من أنّ خشبها بالكامل قد تبدّل! إذا كان اللباس يجذب انتباهنا كأسلوب فهم، فذلك لأن حياتنا الداخلية، على الرغم من كل الصيغ المجردة والسامية للذات والروح، غالبًا ما تكون مُغطاة بالملابس. كيف يمكننا أن نتظاهر بأنّ طريقة لباسنا لا تتعلّق بدوافعنا؟ إنّ الملابس التي نرتديها تحمل أسرارنا وفي الوقت نفسه تكشف أكثر ممّا نرغبه عن أنفسنا. هناك سذاجة فلسفية في التقليل من شأن الملابس! كان شكسبير يعلم ذلك، ففي مسرحية الملك لير يفصح الملك: “من خلال الملابس الممزّقة تظهر الرذائل العظيمة؛ أمّا الأردية الفاخرة والفرو فهي تُخفي كل شيء”. لقد قال الملك لير ذلك حتى عندما لم يعد بذخه يُخفي إفلاسه الأخلاقي. لكن الشاعر والفيلسوف إيمرسون سخر بطريقته ممن يمجّدون الملابس ومن يزدرونها: “هناك سبب آخر لارتداء ملابس أنيقة، وهو أنّ الكلاب تُقدّر ذلك ولن تُهاجمك”.

فستان مارلين مونرو

لقد كان أوسكار وايلد مسؤولًا محرّرًا في إحدى مجلات الموضة، حيث طرح أفكاره المهمّة عن دور الملابس في تشكيل المجتمع. وقد نبّه إلى أنّ بعض الملابس تمارس العنف على مرتديها، ومن الضروري نبذ هكذا ملابس، كالقفص الحديدي الذي كانت المرأة تلبسه ليجعل خصرها أكثر نحولًا، فلا غرابة أن يقول في روايته “صورة دوريان غراي”: “إنّ السطحيين فقط هم من لا يحكمون على الأمور من خلال المظاهر. إنّ سرّ العالم الحقيقي يكمن في المرئي، لا في المخفي”. لقد دعا أوسكار وايلد إلى ملابس تمنح الجسد الحرية وسهولة الحركة، وكأنّه يريد من المصمّمين أن يأخذوا بحسبانهم أن ترتدي الأليثيا ثياب الحرية والحركة لا عري الحقيقة فقط. في فيلم (The Seven Year Itch) لعام 1955 نفخ مرور القطار الفستان الأبيض، لأيقونة الجمال مارلين مونرو، فتطاير إلى الأعلى تعبيرًا عن الحداثة وما بعدها التي ستعصف بكل القناعات الفلسفية والدينية. لم تعد الملابس في عصرنا مجرد كساء للجسد، ولا مكانًا للازدراء الفلسفي، ولا وصفًا يساعد في تخيّل الشخصية في السرود الأدبية. لقد أصبحت الملابس أسلوب حياة يعبّر عن موقعنا في هذا الوجود وموقفنا منه، فأن ترتدي قميصًا مصورًا عليه المناضل الأممي تشي غيفارا، فأنت تعلن ميولك السياسية، أو أن ترتدي بنطالًا من دون حزام يشدّه إلى خصرك، فأنت تومئ إلى العنصرية التي كانت تمارس على السود في السجون الأميركية، أو أن ترتدي زيًّا أفغانيًّا، فأنت تعبّر عن أصولية دينية وهكذا. تقول فرجينيا وولف في روايتها (أورلاندو: سيرة): “للثياب وظائف أهم من مجرد إبقائنا دافئين؛ إنّها تُغير نظرتنا إلى العالم ونظرة العالم إلينا” وكأنّنا مع تحوير لمقولة سقراط: “تكلم كي أراك” لتصبح: أرني ما تلبس لأقول لك من أنت!

* كاتب من سورية.

شارك هذا المقال

Continue Reading

Previous: حرب إسقاط النظام الإيراني بشير البكر….المصدر: العربي الجديد
Next: “كف عدس”: رواية الخفي والمسكوت عنه راسم المدهون….المصدر: ضفة ثالثة

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

جمهورية اللا دولة في إيران: تأمل في أصل الحريق المستمر….سامي الكاف صحافي وكاتب يمني….المصدر:اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 19, 2025
  • مقالات رأي

لماذا تعجز النخب المدينية عن التحرر من عقلية “البدو الرحل”؟.أمين الزاوي……..المصدر:اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 19, 2025
  • مقالات رأي

هل تعيد إيران دورة التاريخ؟…..حسن فحص……..المصدر:اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 19, 2025

Recent Posts

  • جمهورية اللا دولة في إيران: تأمل في أصل الحريق المستمر….سامي الكاف صحافي وكاتب يمني….المصدر:اندبندنت عربية
  • لماذا تعجز النخب المدينية عن التحرر من عقلية “البدو الرحل”؟.أمين الزاوي……..المصدر:اندبندنت عربية
  • هل تعيد إيران دورة التاريخ؟…..حسن فحص……..المصدر:اندبندنت عربية
  • الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الكبرى….وليد فارس……المصدر:اندبندنت عربية
  • قاذفات أميركية في “دييغو غارسيا” مع احتدام المواجهة بين إسرائيل وإيران أدت القاعدة دوراً حيوياً في الحروب التي شنتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان…..المصدر:اندبندنت عربية

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • جمهورية اللا دولة في إيران: تأمل في أصل الحريق المستمر….سامي الكاف صحافي وكاتب يمني….المصدر:اندبندنت عربية
  • لماذا تعجز النخب المدينية عن التحرر من عقلية “البدو الرحل”؟.أمين الزاوي……..المصدر:اندبندنت عربية
  • هل تعيد إيران دورة التاريخ؟…..حسن فحص……..المصدر:اندبندنت عربية
  • الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الكبرى….وليد فارس……المصدر:اندبندنت عربية
  • قاذفات أميركية في “دييغو غارسيا” مع احتدام المواجهة بين إسرائيل وإيران أدت القاعدة دوراً حيوياً في الحروب التي شنتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان…..المصدر:اندبندنت عربية

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

جمهورية اللا دولة في إيران: تأمل في أصل الحريق المستمر….سامي الكاف صحافي وكاتب يمني….المصدر:اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 19, 2025
  • مقالات رأي

لماذا تعجز النخب المدينية عن التحرر من عقلية “البدو الرحل”؟.أمين الزاوي……..المصدر:اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 19, 2025
  • مقالات رأي

هل تعيد إيران دورة التاريخ؟…..حسن فحص……..المصدر:اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 19, 2025
  • مقالات رأي

الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الكبرى….وليد فارس……المصدر:اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 19, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.