رواية الكاتبة الفلسطينية هدى المشهراوي “كف عدس” تختار رؤية المجتمع وما فيه من نسيج علاقات عابرة أو عميقة من فجوة ضيقة تُرقب، أو هي تتلصص بحذر وانتباه عميقين إلى ما وراء كل ما يدور في الخفيّ والمسكوت عنه، والذي يُمسك بقبضة لا فكاك منها على مصائر الجميع، ويأخذهم عنوة نحو مسارات قلقة، بل وحتى متنافرة تَرسم لهم مصائر تُشبه الأقدار في حتميتها وطغيانها. هي رواية عن العالم “الداخليّ”، الخاص والحميم لبطلتها التي عاشت مأساة بالغة الخصوصية، وعاشت معها امتحانها الخاص بقسوته البالغة.
هدى المشهراوي في “كف عدس” (منشورات لاماسو – السويد 2025) تروي مأساة فتاة تقع في غرام شاب وُلد فاقدًا لقدراته الجنسية، يتزوجها نزولًا عند رغبة الأهل والمجتمع ليبدأ منذ الليلة الأولى رحلته معها، بل عذابهما معًا واضطرارهما للتكيف مع تلك الحالة بمواصلة العيش المشترك شكليًّا وإخفاء ما يدور في حياتهما من صراع قاسٍ، مرير ومُثقل بالإحباط والخيبة. هي رحلة حياة تُفرد المشهراوي خلالها شبكة العلاقات الاجتماعية لبطلة روايتها مع الرجال الذين عاشت معهم تجارب عاطفية وجسدية مختلفة، كما مع النساء من محيط صداقاتها. في الرواية كل خيوط “الدراما” تذهب بالحدث الروائيّ الذي يمضي بحبكته نحو ذروة كبرى هي إعلان بطلة الرواية أنها “حامل” وتنتظر مولودها الأول، ما يُشيع الفرح في المحيطين بها من الأهل والأصدقاء، وما يُثير الذعر في زوجها العاجز جنسيًّا والذي يرى في ذلك مكاشفة علنية من زوجته بأنها تخونه مع رجل آخر، وهي الحقيقة التي تختصر عالمًا كاملًا من البنائيات المزيفة، والادعاءات الخارجية الكاذبة التي تخفي كُنهها وجوهرها وتضع المحيطين أمام غواية الصورة المزورة والمظهر الكاذب، وكأننا أمام حفلة اجتماعية كبرى من “التكاذب” المشترك الذي يُسهم فيه المجتمع إلى الحد الذي اعتاده الجميع واعتبروه طبيعيًّا وقابلًا للاستمرار، بل الذي يجب أن يستمر.
“تبدو مأساة بطل الرواية الشخصية حاملًا رمزيًّا للمجتمع ذاته، الذي تعلو فيه هتافات السياسة وصخبها بكل ما فيه من ادعاءات كبرى لا تستطيع إخفاء العجز”
رواية “كف عدس” هي أيضًا إطلالة عميقة على المجتمع وما فيه من علاقات اجتماعية وسياسية نشأت واستمرت بتأثير الحروب في لبنان وعلى لبنان، وما فيها من انتماءات طائفية وحتى سياسية شكلت بنية المجتمع برؤاه وملامحه المتنافرة وحتى المشتبكة، وما تُشكله تلك البنية من سلبيات كبرى على الجميع. ونحن خلال الرواية نعيش مع سرديتها ومع “المكابرة” وعقم الاتكاء عليها أو حتى الاعتقاد أنها يمكنها طمس الحقيقة أو تمويهها.
أهم ما في رواية هدى المشهراوي “كف عدس” رشاقة الحدث الروائيّ وانسيابيته وتآلف بنائيته مع ما حملته الرواية من أحداث ووقائع فيها غوص عميق في المشاعر الفردية لأبطال الرواية ورؤاهم، إذ نحن أمام قراءات عميقة في الخفيّ والمسكوت عنه اجتماعيًّا. هنا بالذات تبدو مأساة بطل الرواية الشخصية “حاملًا” رمزيًّا للمجتمع ذاته، الذي تعلو فيه “هتافات السياسة” وصخبها بكل ما فيه من ادعاءات كبرى لا تستطيع إخفاء العجز الذي يسقط أمام أيّ امتحان واقعيّ. وهنا أيضًا تبدو لوحة أبطال الرواية جميعًا زاخرة برجال ونساء يعيشون حيواتهم بوجهين، يُشير كل وجه منهما إلى “حقيقة” مختلفة، بل تُناقض حقيقة الوجه الآخر، المستتر والمسكوت عنه والذي هو الحقيقيّ بالتأكيد.
هي إحدى التجارب الروائية النادرة التي تتناول هذا الموضوع بكفاءة تتجاوز ما نراه عادة، وتذهب لقراءة عميقة تحتفل بالهامّ والموضوعيّ في ظاهرة العجز ذاتها، وتنطلق أساسًا من فكرة الحرية الفردية وارتباطها بفكرة الفرد كحجر أساس في بنية المجتمع كله. نرى ذلك خصوصًا في رؤية بطلة الرواية لحريتها الفردية الشخصية والتي تُشكل جوهر وجودها، وتنطلق منها كل أفكارها ونظرها للعامّ المحيط بها. في الرواية انفتاح عميق وموضوعيّ على عالم النساء الخاص والداخليّ وما فيه من خصوصيات تبدو غالبًا في الأدب الروائيّ مبتسرة ومقموعة، وأقرب إلى جُمل متقطعة لا تقول سوى جزء يسير من الحقيقة. وأعتقد أن هدى المشهراوي قد أجادت في سرد ما وراء “كف عدس” المثل الشعبيّ العربيّ الذي يُشير إلى جانب آخر من كل حكاية، والذي تقف وراء تخومه آفاق أخرى لا نراها عادة، ويتوجب على الأدب الروائيّ سبرها واكتشاف عوالمها وما تخفيه من مآسٍ اجتماعية وإنسانية عميقة لا نتبينها في نظرنا اليوميّ، العاديّ والخارجيّ، والذي نكتشف كل مرة أنه ليس سوى ستارة ثقيلة تُخبئ الأهوال وكل ما نتوقع وجوده. تلك السردية الروائية إذ انتخبت حدثها وأساس فكرتها، أخذتنا معها إلى عالم آخر يزخر بغنى أبطاله وشخصياته، عالم مفتوح على حكايات أخرى، وقصص تحكي ملامح هذا أو ذاك من البشر الذين يُحيطون بنا، والذين يسيرون بأقنعتهم الاجتماعية ويرون فيها وسيلة للنجاة إلى الحد الذي يجعل حضور تلك “الأقنعة” التي يسيرون بها “طوق نجاة” يجعل وجودهم وحقيقتهم مرتبطًا بتلك الأقنعة، أي مرتبطًا بالزيف ذاته.
رواية هدى المشهراوي “كف عدس” تجربة روائية مختلفة أعتقد أنها نجحت في تقديم حدثها الدراميّ وبنائيتها بحرفية عالية، وتحمل قدرًا كبيرًا من التشويق خصوصًا وأن الكاتبة اتكأت على كتابة سردية قوامها البساطة والمباشرة والانتقال السهل بين أبطال الرواية الذين تركت لكل واحد منهم أن يأخذ دوره في سرد ما يتعلق به، أو بالأدق ما تراه حدقته الشخصية من عوالم وأحداث. ونحن خلال ذلك كله كنا نلتقط بيُسر كل مرة مسار الرواية وحدثها العامّ، ونتبع خيط السرد في تنوعه وانتقالاته وما يُقدمه من وصف وتفاصيل وحكايات جزئية تكتمل من خلال وشائجها مع ما يسرده الآخرون من حكايات تُشكل جميعًا قوام الرواية كلها.
عنوان الكتاب: كف عدس المؤلف: هدى المشهراوي