لم يكن خيار الحرب مجرد خطوة ميدانية عسكرية لها آثارها المباشرة، بل كان أيضاً فعلًا رمزيًا بامتياز، يعيد رفع البنية المعرفية التي تنسج بها الأحزاب حضورها السياسي والثقافي في لبنان، ليصبح مادةً سجاليةً شديدة التوتر، تُظهر بوضوح طبيعة الصراع الذي يُدار في البلاد منذ عقود.
أطلقت “جبهة الإسناد” التي فتحها حزب الله في جنوب لبنان ضد إسرائيل في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 جولةً جديدةً من جولات تظهير ومبارزة السرديات المتناقضة في لبنان حول هوية البلد ودوره. لم تنتهِ هذه الجولة ببدء سريان وقف إطلاق النار، إذ كانت نتائج الحرب الكارثية على حزب الله وعلى لبنان والتحولات الإقليمية الكبرى دافعًا إضافيًا أمام الأطراف لمزيد من الانقسام حول محاولات تفسير الواقع وصياغته.
لم يكن خيار الحرب مجرد خطوة ميدانية عسكرية لها آثارها المباشرة، بل كان أيضاً فعلًا رمزيًا بامتياز، يعيد رفع البنية المعرفية التي تنسج بها الأحزاب حضورها السياسي والثقافي في لبنان، ليصبح مادةً سجاليةً شديدة التوتر، تُظهر بوضوح طبيعة الصراع الذي يُدار في البلاد منذ عقود.
إدارة المعرفة: سلطة على الوعي
تحوّلت إدارة المعرفة وعملية السيطرة على المعلومات إلى أبرز أدوات الفعل السياسي المعاصر، بوصفها ممارسة أيديولوجية تؤسس للهيمنة.
هنا يحضر اقتباس ميشيل فوكو البليغ: “الحقيقة ليست خارج السلطة… بل هي جزء منها. فالحقيقة تنتجها علاقات القوة وتوزعها وتعيد إنتاجها”. ما يعني أن إنتاج السلطة وإعادة إنتاجها يعتمدان على القدرة على إدارة المعرفة والسيطرة على الحقيقة، وهو ما يحدّد تشكيل الوعي الجماهيري في الفضاء العام، وبخاصة في دول مثل لبنان، حيث تصبح للرموز اليد الطولى في تحديد أشكال الاصطفافات إزاء الأحداث.
تُفهم إدارة المعرفة كآلية للتحكّم بالموارد الرمزية التي تتيح للفاعلين بناء سردياتهم وإضفاء الشرعية عليها. تصبح المعرفة هنا عنصراً في لعبة السلطة، حيث لا يُكتفى بإنتاج المعلومات، بل يُعاد تنظيمها وتسويقها ضمن بنى معرفية كبرى، على شكل روايات ثابتة الجوهر، شمولية التفسير، تدمج الماضي بالحاضر وتستشرف المستقبل وفق سردية أحادية. ويعبّر عن ذلك المفكر زيغمونت باومان حين يرى:”الحقائق، حتى تلك التي تبدو صلبة، ما هي إلا منتجات اجتماعية، تتغير بتغير القوى التي تصنعها”.
في السياق اللبناني، يظهر ذلك في محاولة حزب الله وضع خياره العسكري في قلب “الرواية المقاومة” لا كمستجد، بل كأساس متكامل، ما يمنحه القدرة على منح الشرعيات وسحبها، في تمازج بين “سلاح المقاومة” و”الشرعية” وبين السياسات الشعبوية والمصالح المالية.
مع تعدد مراكز القوة، تتعدد الروايات حول الهوية والسيادة والمقاومة. حزب الله يتمتع بقدرة استثنائية على إنتاج سردية متكاملة تبدأ من الميدان العسكري وتنتهي في الخطاب الثقافي والديني، ليُعاد تدوير مفاهيم مثل “المقاومة” و”الصمود” ضمن سردية تُقصي الآخر وتمنع التعددية. وهذا يتوافق مع مفهوم “الاحتكار الرمزي” لدى بيير بورديو: “الاحتكار الرمزي هو القدرة على فرض رؤية مشروعة للعالم الاجتماعي، من خلال السيطرة على إنتاج وتوزيع الرموز والمعاني”.
بهذا المعنى، لا تُدار المعرفة كسلعة محايدة، بل تُسخّر لتثبيت شرعية سياسية-عقائدية، حيث يتموضع “الفاعل المقاوم” كممثل حصري للهوية الوطنية، في مقابل قوى أخرى تُصنّف “تابعة” أو “مضلَّلة” أو “عميلة” على نحو ما يطلق حزب الله على معارضي سلاحه.
يقدّم بيتر برغر وتوماس لوكمان رؤيةً مفيدة لفهم ترسّخ هذه السردية: “المعرفة ليست مجرد انعكاس للواقع، بل هي بناء اجتماعي يتم إنتاجه داخل مؤسسات اجتماعية تؤطّر الوعي الجماعي”.
وهنا، حزب الله لا يكتفي بإنتاج السردية، بل يعمل على مأسستها عبر شبكات متكاملة تبدأ من المدرسة وتصل إلى الجامعة، من المسجد إلى الشاشة، من المآتم الى المناسبات الدينية المكثفة، ما يجعل بنية الوعي السياسي مغلقة ويصعب اختراقها من دون كلفة رمزية كبرى كالتخوين أو النبذ وفي أحيان إقصاء بممارسة العنف المباشر.
يذهب باتريك شارودو، المتخصص في اللسانيات وتحليل الخطاب، إلى أنّ الخطاب السياسي لا يصف الواقع بل يعيد إنتاجه عبر آليات المحاكاة:
“المحاكاة لا تعني التقليد السطحي، بل إعادة إنتاج الواقع بشكل رمزي يخدم مصالح السلطة”.
في لبنان، يستند خطاب الممانعة وخطابات خصومه إلى إعادة تشكيل الماضي وتخيّل سيناريوهات بديلة لتبرير الخيارات الراهنة، سواء عبر شيطنة الخصم أو تبرير الشعبوية. هذه المقاربات تقفز عن التغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة وتمسكت بما دأبت على اعتماده في العقود الماضية.
تحديات استعادة فضاء المعرفة
تُظهر حملة التعرّض المستمر لرئيس الحكومة نواف سلام مدى توظيف سردية “الأعداء الجدد” ضمن آليات ضبط السردية المركزية للحزب، عبر تحميله الدولة من خلال رئيس الحكومة مثلاً، إخفاقات الحرب وتثبيت استمرارية السردية القائمة على ألا حماية من دون سلاح حزب الله.
في المقابل، ينطلق خطاب “الدولة مقابل الدويلة” أحيانًا من اعتبارات طائفية ضيقة، تُعيد تحويل الذاكرة الجماعية إلى مورد تعبئة لا مسار مصالحة، ما يكرّس ثنائية “نحن/هم”. وكما يقول الفيلسوف بول ريكور:”الذاكرة الجماعية تُستعمل أحيانًا كأداة سياسية لتأبيد الانقسامات بدلًا من معالجتها”.
وهكذا، تصبح المعرفة ذاتها ميدان صراع سياسي وثقافي، تُحسم فيه معارك النفوذ الرمزي، فيما تعجز الدولة عن بناء سردية وطنية جامعة.
التحدي الأكبر يكمن في إعادة التفكير بالمعرفة كحق عام، لا كأداة أيديولوجية. فكما يرى هابرماسر، فإن الشرط الأساسي لقيام ديمقراطية حقيقية هو “التداول الحرّ للمعرفة والخطابات”.
لذا، فإن تفكيك البنية السلطوية للمعرفة شرط أساسي لإرساء الديمقراطية في لبنان، حيث لا تُحتكر الحقيقة، بل تُناقَش وتُتداول، وصولًا إلى سردية موحّدة تحتضن الجميع.
وهذا ما لا يبدو متحققاً في لبنان بعد.