ملخص
الحقيقة أنه بقدر ما كان لكارل كرواس مؤيدون طوال العقود التالية لصدور كتابه الكبير الأول ذاك، وهي عقود شغلتها متابعته سجالاته مع هرتزل ولكن مع كثر من المثقفين اليهود، ولا سيما المنتمين إلى الصهيونية من بينهم، كان له معارضون راحوا يحصون عليه سكناته وكلماته وصولاً إلى انبعاث النازية عند نهايات العقد الثالث من القرن الـ20 وبعد ذلك بقليل، عند وصول أدولف هتلر ونازييه إلى السلطة.
عام 1933 كان قد مضى نحو ثلث قرن على الصدمة التي مثلها الكتاب الذي أصدره كاتب يهودي نمسوي في فيينا بعنوان “تاج صهيون” Eine Krone für Zion. وكان مصدر الصدمة أن العنوان لعب على ازدواجية كلمة “كراون” التي تعني في الألمانية، في لفظها في الأقل وفي الوقت نفسه: تاجاً وقطعة بخسة من النقد المحلي، أما فحوى الصدمة فيعود إلى أن مؤسس الصهيونية في مؤتمر “بازل” عام 1898 كان قد جعل المبلغ الذي يدفعه كل مشارك في المؤتمر كراوناً واحداً. ومن هنا حين أراد مؤلف الكتاب أن يسخر من تيودور هرتزل سخر منه عبر ازدواجية اللفظ الذي يجعل من هذا الأخير “ملك صهيون المتوج” ويشير إلى كلفة ذلك على كل يهودي يريد أن يكون صهيونياً.
كان من الواضح أن النص الجدلي والمناهض للصهيونية كان “أخطر” ما فيه أن كاتبه هو الصحافي والمجادل النمسوي اليهودي كارل كراوس، وأتى تعليقاً ساخراً وحاداً على مؤتمر هرتزل في ذلك عام 1898. وكما هي الحال مع كثير من يهود فيينا الذين عاشوا في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، كان كراوس معارضاً للحركة الصهيونية، ومن هنا يسخر المقال من تيودور هرتزل. ويفضحه معتبراً أن معاداة السامية هي جوهر الحركة الصهيونية، وأن أهداف الصهيونية معادية للسامية، وأن الصهاينة اليهود “معادون للسامية”. وبصورة أكثر وضوحاً، اتهم كراوس هرتزل والحركة الصهيونية بدعم معاداة السامية من خلال الترويج لفكرة أن اليهود يجب أن تكون لديهم ولاءات متعددة، والترويج لفكرتهم بأن اليهود يجب أن يغادروا بلدانهم. وكان كراوس مؤيداً صريحاً لاستيعاب اليهود في البلدان التي يعيشون فيها ولا سيما في أوروبا وأميركا، ومن هنا معارضته الصريحة للطبيعة الانفصالية للصهيونية التي يعدها “تمييزاً عنصرياً ضد اليهود أنفسهم”.
في انتظار النازيين
والحقيقة أنه بقدر ما كان لكارل كرواس مؤيدون طوال العقود التالية لصدور كتابه الكبير الأول ذاك، وهي عقود شغلتها متابعته سجالاته مع هرتزل ولكن مع كثر من المثقفين اليهود، ولا سيما المنتمين إلى الصهيونية من بينهم، كان له معارضون راحوا يحصون عليه سكناته وكلماته وصولاً إلى انبعاث النازية عند نهايات العقد الثالث من القرن الـ20 وبعد ذلك بقليل، عند وصول أدولف هتلر ونازييه إلى السلطة، إذ إنهم هنا راحوا يتساءلون عما إذا كان كراوس سيقف مؤيداً لما راحت النازية تبثه من نزعات لا سامية تتضافر لديها مع عداء واضح لليهودية عبر عنه هتلر على أية حال في كتابه البائس “كفاحي”.
ويقيناً أن الصهاينة كانوا يأملون، بل يتوقعون، أن يجدوا لدى كراوس ما يجعل مواقفه من الصهيونية نوعاً من التلاقي، ولو موضوعياً فحسب، مع المواقف الهتلرية، بيد أن إصداره عام النازية 1933 بالتحديد كتابه المعنون “ليلة فالبورجيس الثالثة” خيب فألهم وكشف عن أن عداء كارل كراوس للنازية يفوق ومن بعيد، عداءهم لها. ومن هنا فاقت كراهيتهم الجديدة له كراهيتهم السابقة فبات معادياً لهم عداء مزدوجاً. ولعل شعوره بذلك العداء هو ما دفعه حينها إلى إعلان تخليه عن دينه اليهودي “إذ تحولت اليهودية”، كما قال، “إلى دين صهيوني” وهو ما عبر عنه على أية حال في ذلك الكتاب الذي يبدو منسياً الآن، ومنسياً على رغم أن أصواتاً عديدة ارتفعت في سنوات الـ60 تقارب بين المفاهيم التي عبر عنها كراوس في هذا الكتاب، والمفاهيم التي سيعبر عنها الفرنسي غي ديبور في “مجتمع الاستعراض” كتابه الذي كان من أبرز مرجعيات الثورات الشبابية في ستينيات القرن الـ20.
ضد الإعلام وتزييفه
ولكن عم يتحدث “ليلة فالبورجيس الثالثة”؟ ببساطة عن تلك القديسة فالبورجيا التي عرفت عند نهايات الألفية الأولى، بمطاردتها السحرة وإحراق الساحرات ودفع المواطنين البسطاء إلى اعتناق المسيحية التي انتشرت على يديها في الشمال الأوروبي بصورة خاصة. غير أن كراوس لم ينهل موضوعه من التاريخ، بل من الأدب وتحديداً من الدور الذي تلعبه فالبورجيا في القسم الثاني من مسرحية “فاوست” لكاتبه، وكاتب الألمان المفضل غوته، الذي شاءت الصدف أن يحتفل الألمان بالمئوية الأولى لرحيله في العام نفسه الذي وصل فيه هتلر إلى السلطة. وهنا أيضاً لم يكن ذلك الاختيار صدفة بالنسبة إلى كراوس وهو الذي وضع كتابه هذا كله تحت مظلة… الكلام، اللغة، تماماً كما فعل هتلر نفسه ومعاونوه الذين لم يستحوذوا على عقول الجماهير الألمانية، وغير الألمانية أيضاً، إلا من طريق اللغة التي تصبح في كتاب كراوس، تماماً كما لاحقاً في كتاب ديبور، واحداً من أخطر الأسلحة وبخاصة حين لا تقول في نهاية الأمر شيئاً عدا الكراهية التي تنشرها. ويعني هذا بالطبع أن كراوس إنما سار في هذا الكتاب على خطى عدد من الباحثين السابقين عليه، كما مهد لجهود عدد من أولئك الآتين من بعده، من الذين أوصلتهم تحليلاتهم العميقة، أو “سخريتهم البذيئة” إلى اعتبار النازية مثل الفاشيات والديماغوجيات الأخرى، لعباً على الكلام واستخداماً موارباً للغة، اللغة التي لن يكون من المبالغة اعتبارها لعباً على شياطين الكلام وطواحينه، ومن هنا الاستحواذ على القديسة فالبورجيا التي لا تفعل غير ذلك في مسرحية غوته. ولكن غوته لم يكن الوحيد الذي استعان به الكاتب النمسوي الذي عرف، على أية حال، بكونه من كبار الساخرين في فيينا التي كانت وليدة “الكابوس السعيد”.
المذبحة الهتلرية لقرية إسبانية صغيرة تقلب تاريخ الفن
روائيون يهود عرب انتقدوا الصهيونية في أعمالهم
شكسبير بين الصحوة والهوية: هل يحتاج إرثه إلى إعادة تأهيل؟
شكسبير يقوم بدوره
وشكسبير أيضاً مر من هناك، وهو الذي يستند كراوس بالتأكيد إلى عبارة هاملت الأشهر في تحفته المسرحية الخالدة، حين يصرخ ذلك الأمير الدنماركي، ملك التردد واللاقرار في تاريخ الأدب ومن ثم في تاريخ الإنسانية: “كلمات، كلمات، كلمات”. وفي هذا السياق لم يكن من الصدفة أيضاً وأيضاً، أن يعلن كراوس يأسه لكون خسارة الثقافة باستخدام “الكلمات” قد اشتريت بثمن الأرواح البشرية! “فأهون ما في هذه الخسارة، حتى لو اقتصرت على ساعة من أكثر ضروب الوجود بؤساً، أنها كانت وتبقى أثمن من مكتبة محروقة. حيث تبقي الصناعة الفكرية البرجوازية نفسها في حال سكر حتى الانهيار عندما تخصص مساحة أكبر في الصحف لخسائرها الخاصة بدلاً من التركيز على استشهاد المجهولين، ومعاناة عالم العمال، الذي تتجلى قيمة وجوده بشكل لا يقهر في النضال والتعاضد، إلى جانب صناعة تستبدل التضامن بالشعور، الذي، كما أن الدعاية عن الأهوال هي دعاية للحقيقة، لا يزال قادراً على الكذب معها”.
وفي هذا السياق يبدو واضحاً أن كراوس إنما يستهدف الصحافة التي كانت مكمن التكاذب الأفضل، قبل الصورة المتحركة بزمن، وقبل وسائل التواصل الاجتماعي التي سيدنو منها غي ديبور بقوة استثنائية، إذ بالنسبة إلى كراوس “لا تشك الصحافة في أن الوجود الخاص، كضحية للعنف، أقرب إلى الروح من جميع انتكاسات التجارة الفكرية. وفوق كل ذلك، هذا الكون الكارثي الذي يشغل الآن أفق صحافتنا الثقافية بالكامل”.
التضحية بالعقل
بقي أن نذكر هنا أن كارل كراوس قد كتب صفحات “ليلة فالبورجيس الثالثة” بين أوائل مايو (أيار) وسبتمبر (أيلول) 1933، أي تحديداً خلال تلك الأسابيع التي تحولت فيها النازية إلى سلطة حاكمة وتحول فيها الشعب الألماني إلى قطيع يقف اليوم موقف العداء في وجه كل ضروب العقلانية التي اشتهر بها الفكر الألماني منذ مئات السنين، وكان من أغرب ما في ذلك أن الأكثرية المطلقة من الشعب الألماني الذي كان قبل قرن ونيف، وعلى لسان كبار مبدعيه ومفكريه، قد رفض ديكتاتورية نابليون بونابرت على رغم أن هذ الأخير أتى واعداً بالعقل والتنوير، ها هي اليوم ترتضي بديكتاتورية هتلر الذي حمل إليها الظلمة والتجهيل والموت الأكيد. وكل ذلك بفضل الكلام… الكلام الذي كان في الماضي السحيق، ومن طريق تلك القديسة، قد حارب السحرة، لكنه بات اليوم يستبدل ذلك كله بترسيخ النازية في العقول، ولا يجابه ذلك إلا بحفنة من كتاب يصدرون، للأقلية على أية حال، كتباً مثل هذا الكتاب المكثف والمتشابك، الذي يستكشف، تحت السطح، أحداثاً غفل عنها المؤرخون، ولكن مستنداً إلى الأدب والشعر، أي إلى الكلام، ليكشف مسؤوليات أولئك الذين قبلوا، بل وطالبوا، بالتضحية بعقولهم في خدمة الدعاية، ممهدين الطريق لدفن البشرية ولو إلى حين.