حين تضع الحروب أوزارها، لا تنتهي المعارك دفعةً واحدة، بل تنتقل من ساحات النار إلى دهاليز المؤسسات، ومن فوهات البنادق إلى بنود الدساتير. في سوريا ما بعد الحرب، يبدو التحدي الأكبر ليس في إعلان النصر أو رفع العلم الموحّد، بل في هندسة السلام. وأحد أعقد الأسئلة المطروحة اليوم هو: كيف يمكن للدولة أن تستوعب عشرات الآلاف من المقاتلين الذين خاضوا حربًا بلا قوانين، ضمن جيش يُفترض به أن يكون حارس السيادة وضابط الإيقاع الوطني؟
بين سطور هذا السؤال، تقف التجربة اللبنانية كمرآة عاكسة، تُنبئ بما قد يحصل إن اختلطت حدود الدولة بالدويلات، وإن أُدمج السلاح بلا محاسبة، وتحوّل المقاتلون إلى قادة نفوذ لا تحكمهم إلا توازنات العنف. فهل يكون دمج الميليشيات في الجيش السوري مدخلًا لبناء الدولة، أم مدخلًا لتقويضها من الداخل؟
هناك، في المساحات الرمادية بين العنف والانبعاث من جديد، يتشكل مستقبل الدولة: إما تخرج أكثر صلابة من رمادها، أو تصبح كومة هشّة من الحطام السياسي والأمني، ورهينة أشباح الحرب التي أبت أن تموت. هكذا كان لبنان بعد عام 1990، وهكذا قد تصبح سوريا إن لم يُحسن التعامل مع مسألة الميليشيات والسلاح الخارج عن الدولة. فاستيعاب الفصائل المسلحة ليس مجرد عملية إدارية أو تنظيمية، بل هو مشروع سياسي وأخلاقي، يتعلق بجوهر الدولة نفسها: هل تكون دولة مواطنة؟ أم تتحوّل إلى شركة مساهمة بين أمراء الحرب؟
لبنان، في لحظة نهاية حربه الأهلية، لم يُحسن اقتناص الفرصة. خُيّل له أن العفو العام، وتسوية “اتفاق الطائف”، وتوزيع الغنائم السياسية، كفيلة بإقناع الميليشيات أن تنزل عن عروشها. لكن الحقيقة أن كثيرًا منها لم تنزل، بل غيّرت ثيابها، وارتدت بزة الدولة لتحكم من داخلها. هكذا “تفرعنت” منظمة “حزب الله”، لا كمجرد حزب، بل ككيان أمني وعسكري مستقل يتعايش مع الدولة، ويتفوّق عليها حين يشاء. فهل يعيد التاريخ نفسه في سوريا؟
اليوم، تنبعث أسئلة ما بعد الحرب من تحت ركام المدن السورية المدمرة، وإحداها أخطر من أن يُترك دون إجابة واضحة: ماذا نفعل بالمقاتلين؟ لا سيما أولئك الأجانب الذين خاضوا الحرب إلى جانب جماعات متطرفة ثم استداروا، بدفع دولي أو صفقة محلية، إلى صفوف الدولة الجديدة.
بحسب ما نُقل عن مبعوث أميركي مهم لوكالة “رويترز” في الأيام القليلة الماضية، فإن واشنطن “تتفهم” سعي القيادة السورية الجديدة إلى دمج 3500 مقاتل أجنبي، أغلبهم من الأويغور، في تشكيل عسكري جديد هو الفرقة 84. الخطوة، وإن كانت مشروطة بالشفافية، تنطوي على إشكالية وجودية: هل تُبنى الجيوش على قواعد الولاء الوطني، أم على تسويات ظرفية تمليها الحاجة إلى إغلاق ملف الميليشيات؟ وهل تقود البراغماتية السياسية إلى بناء دولة، أم إلى شرعنة التجزئة داخل المؤسسة العسكرية؟
لبنان مرّ بهذا المنعطف من قبل، حين تغاضى عن نزع سلاح بعض الميليشيات، بل وسمح بدمج رموزها في الجيش أو أجهزة الأمن، دون مسار عدالة، ولا تأهيل، ولا حتى معايير واضحة. النتيجة؟ جيش بلا قرار سيادي، وأجهزة أمنية متضاربة الانتماء، ودولة تنام على فوهة بركان.
بل إن الجيش اللبناني نفسه، الذي يُفترض أن يكون الضامن لوحدة البلاد، وقع ضحية هذا التشظي. فتاريخه الحديث يُظهر نمطًا خطيرًا من الحياد المفرط. في كل مرة انفجرت فيها صراعات مسلحة بين طوائف متناحرة، كما حصل في 7 أيار 2008، أو في جولات العنف في طرابلس أو بيروت، وقف الجيش موقف المراقب المسلح، لا المتدخل الحاسم. أما حجّته في ذلك فهي “منع الفتنة”، لكنه بذلك كرّس نفسه والدولة كمتفرج حين تتقاتل الطوائف، خوفًا من انقسامه أو تشظيه.
وهذا الواقع ليس نتيجة تقصير المؤسسة العسكرية نفسها، بل ناتج عن غياب القرار السياسي الموحّد، وانقسام الولاءات داخل الدولة، وعدم معالجة ملف الميليشيات من جذوره. فالجيش الذي يضم في صفوفه أبناء الطوائف كافة، ويعمل ضمن نظام طائفي هش، لا يستطيع أن يكون حَكَمًا حين تُستباح الطائفة من قبل طائفة أخرى، دون أن يُتّهم بالانحياز أو بالخيانة. وبهذا، تفقد الدولة سلاحها الأساسي.
المقاتل الذي لم يُعَد تأهيله سيظل يحمل الحرب في داخله، حتى لو ارتدى الزي الرسمي. والسلاح الذي لا يُنتزع، يتحوّل إلى “فيتو” دائم على القرار الوطني. وإن كان الدمج مطلوبًا في لحظة ما، فإن السياق والطريقة هما الفيصل بين بناء مؤسسة أو إعادة تدوير الفوضى.
في سوريا، تبدو القيادة الجديدة ماضية في خيار استيعاب الفصائل داخل الجيش، كما لو أن التجربة اللبنانية لم تُكتب، ولم تُعرف نتائجها بعد. لكن المعضلة لا تكمن فقط في هوية المقاتلين، بل في الأساس الحقيقي للدمج: هل الهدف دمجهم في الدولة، أم التخفيف من خطرهم بتجميعهم تحت راية واحدة؟ الفارق بين الحالتين، هو الفارق بين دولة تحكم وميليشيات مقنعة تدير.
حتى اللحظة، لا إشارات حقيقية على وجود خطة لإعادة تأهيل المقاتلين، ولا حديث عن برامج نزع سلاح، أو مسارات للعدالة الانتقالية، أو معالجة نفسية واجتماعية. بل ما يُطرح هو إلحاق تقني ضمن وحدات عسكرية مستحدثة. وكأننا نعيد إنتاج “قوة الأمر الواقع” ضمن هيكل الدولة، على غرار ما فعله لبنان، حين سلّم مفاتيح الأمن القومي لحزب واحد، ثم فوجئ بأن سيادته صارت مرهونة بقرار من خارج الدولة.
الدمج بلا عدالة، وبلا وضوح، لا يؤسّس لجيش، بل لذراع عسكرية هجينة، لا تنتمي بالكامل للدولة ولا تخرج عنها. والخطر لا يكمن فقط في المقاتلين الأجانب، بل في ثقافة الحرب التي قد تنتقل معهم إلى داخل المعسكرات الرسمية. حينها، لن تكون الحرب قد انتهت، بل غيّرت ملامحها.
إن من يريد بناء سوريا جديدة، عليه أن يضع نصب عينيه أن السلاح الخارج عن القانون لا يصبح شرعيًا حين يُطبَع بشعار الدولة. وأن مقاتلي الفصائل، سواء كانوا سوريين أم أجانب، لا يمكن دمجهم دون إعادة تأهيل نفسية وسياسية وأخلاقية. وأن الدولة، لكي تنهض، لا بد أن تقطع مع ماضيها الدموي، لا أن تعيد تدويره في مؤسساتها.
لبنان لم يفعل ذلك، فبقي هشًّا معلّقًا على شفا الانهيار. أمّا سوريا، فإما أن تتعلّم من فشله، أو تسلك ذات الطريق نحو دولة بلا قرار، وجيش بلا هوية، وسلام لا يسكن النفوس، بل تتعايش مع هدنة مؤقتة تؤجّل الانفجار القادم.