يعرض مهرجان Beat السينمائي(*) فيلم المخرج الألماني فيم فيندرز/ Wim Wenders “أنسيلم”، الذي يقدم حياة فنانٍ كلاسيكيٍّ ألمانيٍّ هو أنسيلم كيفر/ Anselm Kiefer. صُوِّر الفيلم في عامي 2022 و2023، وعرض للمرّة الأولى في مهرجان كان السينمائي عام 2023، ليجوب بعدها العالم من دون أن يفقد أفضل ما فيه: الجمالية، والموضوعية، والابتعاد عن الإملاءات، والرتابة.
ستوديو أنسيلم كيفر
ينتمي كيفر وفيندرز إلى الجيل نفسه، بل ولدا في العام نفسه: الأوّل قبل شهرين من نهاية الحرب العالمية الثانية في قريةٍ صغيرة في الغابة السوداء جنوب ألمانيا، والثاني بعد ثلاثة أشهر على نهايتها على ضفاف نهر الراين في مدينة دوسلدورف الصناعية الضخمة غرب ألمانيا. الأوّل، حيثِ تتجاور ألمانيا مع بلدانٍ ذات لغاتٍ مختلفة، والثاني في قلب الرايخ الثالث الذي سقط للتوّ. بالنسبة لكليهما، كانت الطفولة عبارةً عن حياةٍ في مدنٍ مدمرة جزئيًّا، أو كليًّا، وكان أمام ناظريهما من آثار الدمار الذي خلّفته الحرب أكثر بكثيرٍ من المناظر الطبيعية الخلابة المميّزة في مسقطي رأسيهما. شكّل صمت الناس المطبق في شأن الحرب التي انتهت للتو وأسبابها بيئة خلفية ودرامية في أثناء نموّهما. وشكّلت هذه التشابهات في سيرتهما الذاتية أساس حبكة الفيلم، ولكنّها تشكّل أساسه أكثر من كونها محركة. من حيث المبدأ، الفيلم ليس من أفلام السيرة الذاتية، بل يحكي قصّة تطور لغةٍ بصريّة لكليهما، تبين في ما بعد أنّها لغة أصلية بالفعل، إنّها لغة النضال ضدّ الصمت.
لم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق. فكيفر لم يحقق نجاحه الأول في موطنه، بل في الولايات المتحدة الأميركية، حيث أقيمت معارضه الشخصية في كلّ متاحف البلاد الكبرى تقريبًا(**) في بداية ثمانينيات القرن العشرين. في ألمانيا، نُظِر إلى أعماله، التي تكرّس التحية النازية على خلفية معالم تاريخية مختلفة، على أنها أعمال استفزازية. يقول كيفر: “في بلدٍ “ظلّ الناس فيه صامتين بشأن هذا الأمر”، كان من الأسهل على الناس اتهام الفنان بالتعاطف مع النازية، بدلًا من المسارعة إلى مناقشة الأفكار المبطنة التي لم يكن في مقدور الفنان البوح بها علنًا وبصراحة”. من وجهة نظر كيفر نفسه، فإنّ استخدامه المتكرر لأبطالٍ من الأساطير والثقافة الألمانية، من بارسيفال، إلى هولدرلين، كان بمثابة احتجاجٍ مبطّن ضدّ استيلاء النازيين على هذه الرموز، وتكريسهم لها في خدمة أيديولوجيتهم. ومع ذلك، سارع كثير من النقاد إلى اتهام كيفر بالرجعية.
“من بين الأسماء المتكررة في لوحات كيفر يركّز المخرج فيندرز على الشاعر الألماني بول سيلان، والفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. وهذا ليس لقاء بين الشعر والفلسفة”
يتضمّن الفيلم مقطعًا رائعًا من مقابلة أصلية أجريت مع كيفر في سبعينيات القرن الماضي، حيث أجاب فيها باللغة الإنكليزية عن سؤالٍ حول شعوره عندما يوصف بأنّه “فاشيّ جديد”: بالطبع، أشعر بالإهانة. لكنني لن أتوقف عن عملي لأقول: “أنا في الواقع مناهض للفاشية”، فهذا سيشكّل إهانةً لعدد من مناهضي الفاشية الحقيقيين الذين عاشوا في ذلك الوقت العصيب.
بقدر ما يبدو كيفر مقتضبًا في أحاديثه، فإنّه يظهر ميّالًا للإطالة في أعماله. فأعماله ضخمة متعددة الأمتار، تجعله في طليعة الفنانين الكبار في عصره. لا يتعلّق الأمر بالأبعاد إطلاقًا، فلوحاته تحتوي على مواد غريبة، من الرصاص المصهور، والقشّ المحروق، إلى أجزاء الطائرات، أو الأَسّرة، لتشكيل المشهد الكلّي… “لا يمكنكم الاستمرار برسم الحقول ببساطة بعد أن مرّت بها الدبابات”، يقول في الفيلم، وينظر إلى كلّ لوحةٍ رسمها بعد ذلك في هذا السياق. فحقول كيفر حرثتها الحرب، وليس المحاريث. وتسويتها تعد جريمة، كما هو الأمر بالنسبة لرغبة المجتمع الألماني بنسيان الحرب العالمية الثانية، أو تجاهل مشاركته فيها.
من بين الأسماء المتكررة في لوحات كيفر يركّز المخرج فيندرز على الشاعر الألماني بول سيلان/ Paul Celan، والفيلسوف الألماني مارتن هايدغر/ Martin Heidegger. وهذا ليس لقاء بين الشعر والفلسفة. إنّه لقاء حقيقي، وإمكانية شاملة للتواصل بين ولد يهودي فقد والديه في الهولوكوست ونجا بأعجوبة من الموت، وبين بروفيسور جامعي، عضو في حزب العمال الاشتراكي القومي الألماني، لم يُبدِ الندم يومًا، ولم يكلّف نفسه مشقة تفسير أسباب إعجابه بأفكار هتلر. أشعار الشاعر بول سيلان في هذا الفيلم إطار فعال ومجموعة رموز مختارة هامّة للحديث عن كيفر (“ضفائر مارغريتا/ نحن نحفر قبرًا في الهواء، حيث المكان رحبٌ”)…. تطرح أكثر الأسئلة أهميةً بالنسبة للفنان: كيف استطاع الألمان في الوقت نفسه أن يصمتوا عن الجريمة، وأن يبدعوا في الفنّ: “ماما هناك عاش مجرمون# ماما، إنّهم يكتبون الشعر# ماما، إنّهم صامتون…”.
هنالك ما يستحق النقد في فيلم فيندرز. فبالنسبة لفيلم وثائقي، الإضافات التي يلعب فيها حفيد الفنان وابنه دور كيفر في طفولته وشبابه، تعد متوترة مقارنة بأسلوب السرد البطيء، وبالـ”الرقص” الهادئ الذي يؤديه بطل الفيلم في الصالات الضخمة لورش العمل في المعمل. النقاد الماركسيون غير راضين عن ضخامة ورشات العمل هذه، وعن “استغلال العمال المأجورين (كيفر بالفعل هو أكثر فناني العالم ثراءً)”. يبدو لكثيرين أنّ كيفر قد بالغ قدر استطاعته في تجاهل الذاكرة التاريخية، إلا أنّ فيندرز، وبطله، من أولئك الفنانين الذين يضربون بدقة في المكان والزمان المناسبين.
هوامش:
(*) مهرجان Beat السينمائي: هو مهرجان السينما الوثائقية عن الثقافة الجديدة الذي ينعقد في المدن التي تتميز بحياة ثقافية حيوية وحضور سينمائي قوي. ويقام أحيانًا في أماكن غير تقليدية، مثل القاعات الصغيرة، أو حتى في الهواء الطلق. يركّز المهرجان على الأفلام التي تعكس رؤى فريدة، وتستكشف جوانب الحياة المتنوعة.
(**) متاحف البلاد الكبرى: تعرض لوحات كيفر في متاحف أوروبا، وأميركا، وأستراليا، بما في ذلك: متحف اللوفر في باريس، ومتحف بلباو في إسبانيا، ومتحف هانغر بيكوتشا في ميلانو/ إيطاليا، ومتحف الإرميتاج في سان بطرسبورغ/ روسيا، وكذلك في متحف الفنّ المعاصر في نيويورك.
شارك هذا المقال