ملخص
بين منصات تحاول جاهدة الإبقاء على إطار “موضوعي” في التغطية، وأخرى غارقة حتى أذنيها في الانحياز لطرف هو إيران، وثالثة تجد نفسها في وضع صعب يصفه بعض المراقبين بـ”بالغ الحساسية”، إذ تربطها علاقة “عدم ود” وربما عداء مع إيران، لكن في الوقت نفسه، تمثل إسرائيل بالنسبة إليها “العدو التاريخي” تدور دوائر التغطيات الإعلامية العربية
إسرائيل تضرب إيران، والأخيرة ترد، ودول العالم تتفاعل. إنها السردية الوحيدة المتفق عليها في الحرب الدائرة حالياً. قنوات العالم ومواقعه الخبرية وغيرها من منصات الإعلام التقليدي تتابع ما يجري على مدى ساعات اليوم.
الشريط الخبري في حال لهث مستمر ليواكب ما يحدث، تارة قصف هنا، وأخرى رد عبر صاروخ هناك، وثالثة بتهديد من هذا الطرف، ورابعة بتأييد من ذاك، وخامسة لدولة تهدد أحد الطرفين، وسادسة لأخرى تهدد الطرف الآخر، وهلم جرا. إنها تغطية الحروب والصراعات اللاهثة، لا وراء ما يحدث فقط لعرضه على المتلقين، لكن لعرضه بالشكل الذي يخدم توجهاتها، ومصالح دولها، ويتطابق ورؤى القيادة السياسية والأمنية كل في بلده أو مجموعته أو جماعته.
ضرب وحرب وما تيسر
ضرب إسرائيل إيران، أو حرب إسرائيل على إيران، وما تيسر من رد طهران، ليسا ككل الحروب، بما فيها حرب إسرائيل في غزة. في الأخيرة، تراوحت وما زالت على رغم خفوت الاهتمام التغطيات والتحليلات بين طرفي نقيض بحسب موقف كل دولة، أو ملكية كل منصة إعلامية، من إسرائيل أو القضية الفلسطينية. التأرجح الوحيد ظل في هامش التعاطف الإنساني مع غزة وأهلها صعوداً بحسب العدوان الإسرائيلي، وهبوطاً كلما هدأت الأمور.
أما هذه الحرب الدائرة حالياً فالمواقف الإعلامية تجاه ما يجري أكثر حدة، وأشد حساسية، وأغلبها معروف سابقاً ومتوقع قبل أن تتوسع دائرتها. الجانب النظري في الإعلام النظري يقر بالورطة أو المعضلة الكلاسيكية المتمثلة في كيفية التعامل مع المصالح المتضاربة في تغطية الصراعات، لا سيما الساخنة.
بين البحث عن الحقيقة وسط ركام الحرب، والحفاظ على وحدة الصف الوطني، وتوجيه أو تشكيل أو صناعة الرأي العام لتلبية أجندات سياسية وطنية، يجد الإعلام التقليدي نفسه في وضع صعب محاولاً الإمساك بعصا الحقيقة والمصالح من منتصفها، وهو المنتصف الذي قد يميل قليلاً أو كثيراً بحسب التوجيه أو الرقابة أو المنع أو كل ما سبق.
المواجهة بين إسرائيل وإيران، الحلقة الأحدث من سلسلة صراعات الشرق الأوسط، الحرب ليست حربين أو ثلاثاً أو أربعاً، بل حروب عدة وسرديات متراوحة وتحليلات، كثير منها يقف على طرفي نقيض، والقليل منها قادر على الإمساك بعصا الموضوعية مع عدم أخذ موقف منحاز لطرف على حساب الآخر “قدر المستطاع”.
مؤيدة بشدة ومعارضة أيضاً بشدة
أغلب مواقف دول العالم، ومن ثمّ وسائل إعلامها، من إيران إما مؤيدة بشدة، أو معارضة بشدة. وتبقى هناك مجموعة دول تقف إما على الحياد، أو على الحرج. الغالبية المطلقة من وسائل الإعلام الغربية، لا سيما الأميركية، مع الاختلاف الشديد في توجهاتها في ما يختص بإدارة الرئيس الأميركي ترمب تعتبر إيران “عدواً”، وأحياناً “أكبر”.
استطلاعات الرأي المختلفة على مدى العقود الماضية تشير إلى وجهة نظر سلبية أو مخاوف طاغية تحملها نسبة كبيرة من الأميركيين تجاه إيران. تتغير النسبة قليلاً صعوداً وهبوطاً بحسب التطورات السياسية والتغطيات الإعلامية، لكن يبقى الرأي العام الأميركي متوجساً من إيران.
قبل ساعات، قالت شبكة “فوكس نيوز” الأميركية إن استطلاع رأي حول موقف الأميركيين من إيران أجري قبل أيام من بدء الضربات الحالية، أشار إلى أن عدداً أكبر من الأميركيين يؤيد ضربات جوية إسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية.
الاستطلاع أجراه “معهد رونالد ريغان” (منظمة تعليمية وإعلامية غير ربحية)، وأظهر أنه على رغم ميل أميركي نسبته نحو 45 في المئة لضرب منشآت إيران النووية على يد إسرائيل، في حال فشلت المفاوضات بين أميركا وإيران على تقليم أظافر إيران النووية، فإن هناك فروقاً بين الديمقراطيين والجمهوريين، إذ انخفضت نسبة التأييد بين الديمقراطيين وارتفعت بين الجمهوريين.
مثل هذا الاستطلاع يعكس جزءاً من التغطية الإعلامية الأميركية في الحرب الدائرة حالياً، ففي وقت يشير فيه عنوان “سي أن أن” الرئيس مثلاً إلى أن “إسرائيل وإيران تتبادلان الضربات مع احتدام الصراع”، فإن “فوكس نيوز” تتخذ من عدد القتلى والإصابات الإسرائيلية “الناجمة عن الهجمات الإيرانية على إسرائيل” عنواناً رئيساً لها، وذلك بعد تغطية أخبار “مثيرو الشغب ضد موظفي الهجرة”، والهدايا التي تلقاها الرئيس ترمب لمناسبة عيد ميلاده، مع إصراره على الوصول إلى اتفاق مع إيران عبر المفاوضات في شأن قوتها النووية.
النبرة العامة في الإعلام الأميركي مقيدة بالعداء التاريخي المعاصر بين الدولتين، لكن تظل هناك ملامح واضحة لأعمدة رأي ومداخلات آراء وتحليلات من قِبل متخصصين تعرض مكاسب وخسائر الطرفين، وموقف أميركا وآثار ما يجري على اقتصادها وعلاقاتها في الشرق الأوسط، وذلك بعد تأكيد دائماً وأبداً “الرباط المؤكد” بينها وبين إسرائيل.
الصحف الأميركية الأشهر لا تعكس المواقف السياسية والتاريخية فقط، لكن تقول كثيراً عن الفروق بينها، لا سيما في أعمدة الرأي والمقالات التحليلية “الشارحة” لما يجري في الشرق الأوسط. بينما “وول ستريت جورنال” تبحث في “خطأ الحسابات الإيرانية تلو الآخر”، وتحلل كيف أن “الفعل النووي الإسرائيلي ضد إيران” لا يعني سوى أن “الدولة اليهودية تستحق الدعم الأميركي في ظل استمرار حملتها ضد البرنامج النووي الإيراني، وأنه لو نجحت هذه اللحظة الفارقة في الشرق الأوسط فستكون خدمة للعالم” تطرح “نيويورك تايمز” رأياً مفاده أن “الحكومة الإسرائيلية تشكل خطراً على اليهود في كل مكان”. محذراً من أن الثمن سيكون باهظاً لو لم يقاوم الناس سياسة نتنياهو العدمية القبيحة في غزة، مع عرض لطريقة تفنيد ما يجري من مواجهة بين إسرائيل وإيران تحت عنوان “كيفية التفكير في ما يحدث مع إيران وإسرائيل” بعرض المكاسب والخسائر التي يتوقع أن تنجم عن المواجهة الحالية.
من جهة أخرى، يستمر بالطبع التعامل الإعلامي الغربي بصورة عامة مع عداد القتلى والمصابين بصورة سياسية أيديولوجية ثقافية بحتة. خبر قتلى قطاع غزة البالغ عددهم أكثر من 55 ألفاً لم يبدأ التعامل معه باعتباره خبراً لافتاً أو مؤسفاً أو عاجلاً إلا بوصوله خانة المئات، ومنها إلى الآلاف، في حين أن القتلى الإسرائيليين يجري تصعيدهم إلى الشريط الخبري الأحمر أو الأصفر العاجل في اللحظة التي يبدأ فيها العداد في العد.
منظومة عداد القتلى تظل حاكمة في صراعات الشرق الأوسط، رقم المئة من القتلى هنا يساوي في الأثر واحداً في العداد هناك. واقع الحال يشير إلى أن لعنة الأرقام ضربت كل وسائل الإعلام، بما في ذلك الشرق أوسطية.
بريطانيا على خط النار
الشرق الأوسط حديث الساعة في كل وسائل إعلام الأرض، بما في ذلك الأوروبية على اختلاف توجهاتها واتفاق غالبيتها المطلقة في من تدعم جداً، ومن تدعم إلى حد ما، ومن تعادي. من “مشاهد نهاية العالم حيث إيران تمطر إسرائيل بالصواريخ وتتسبب في خسائر بشرية ومادية” العنوان الأبرز في الإعلام البريطاني باختلاف درجات ميله إلى إسرائيل، إلى تحليلات ومقالات رأي تقف على طرفي نقيض “نتنياهو هاجم إسرائيل لتفادي ’تهديد وجودي‘، لكنه ربما زاد الأمر سوءاً”، و”إسرائيل تعرف ما نرفض أن نقر به: الملالي يريدون حرباً نووية”، ومنها بالطبع إلى موقف بريطانيا الرسمي، إذ إرسال معدات عسكرية بينها طائرات إلى الشرق الأوسط.
هذا التحرك البريطاني “العسكري” يخضع لكثير من التحليلات المؤيدة إلى حد كبير، والمؤيدة إلى حد ما، والداعية إلى التفكر أحياناً، حيث رئيس الوزراء كير ستارمر “يرفض استبعاد الدفاع عن إسرائيل” بحسب كل وسائل الإعلام، وذلك على رغم تأكيدات ومشاورات واتفاقات مع قادة آخرين في العالم على “ضرورة خفض التصعيد”!
ومع انقشاع أو تبدد أو تواري أخبار الحروب والصراعات الأخرى، بما فيها ما يجري في غزة، الذي لا يمكن فصله عن التصعيد الحالي في إيران، ولو من باب “ردع القوة النووية”، تتسع مساحات التغطية في الدول الأوروبية لما يجري حالياً.
القنوات والمواقع الناطقة بلغاتها الأم لا يفوتها أبداً التذكير بالدعم لإسرائيل، وكأنها تبرر مقال رأي محذر من “التهور أو التصعيد غير المبرر لإسرائيل”، أو تبرئ نفسها من تهمة “التقليل من حجم الخطر الداهم الذي يحيط بإسرائيل وحدها”!
الملاحظ أيضاً أن المواقع والقنوات الأوروبية الناطقة بالعربية تتخذ هذه المرة مواقف أكثر حرصاً وجموداً في ما يختص بإبداء علامة تعاطف هنا أو أمارة تفهم هناك للجانب الإيراني، ولو الإنساني أو المدني، وذلك على العكس مثلاً من مواقفها تجاه غزة. وسواء كانت النسخ العربية التابعة للمنصات الأجنبية تبدي هوامش أكبر من التعاطف مع مجريات غزة مثلاً على مدى الأعوام، مقارنة بهوامشها في منصاتها بلغاتها، بغرض كسب الرأي العام العربي المتابع، أو انعكاساً ولو خفياً للعاملين “العرب” فيها، أو بناء على توجيهات تحريرية لأغراض سياسية، فإن “التعاطف” هذه المرة شحيح ومحسوب.
بوتين وترمب
ويبدو ذلك واضحاً في مسميات التغطية، وهي المسميات التي تندرج تحتها كل مجريات الحرب إلى أن تنتهي. تطغى المسميات الباهتة المختارة بحرص بالغ، فلا مجال لـ”إسرائيل تعتدي على إيران” أو “إيران تضرب إسرائيل”، فقط “المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية” أو “حرب الشرق الأوسط الجديدة”، أو فقط “إيران” باعتبارها الملف الأبرز في التغطيات.
الملاحظ أنه حتى القنوات والمنصات والمواقع التابعة لدول تقف على طرف النقيض من الموقف الإسرائيلي، ومن ثمّ الأميركي، من الحرب الدائرة حالياً، تتوخى درجات حذر ملحوظة، وهي تسير على حافة الموضوعية. فعلى رغم أن “ترمب يزعم بأنه لا علاقة لبلاده بالهجوم الإسرائيلي على إيران”، و”إسرائيل طلبت المساعدة من أميركا”، و”طهران ترد على مسؤولين ألمان: ألمانيا أشعلت حربين عالميتين لكن الإيرانيين أنقذوا يهوداً من بطش هتلر”، و”السخرية تجتاح السوشيال ميديا تجاه العرض العسكري لمناسبة يوبيل الجيش الأميركي”، لكن يظل “بوتين يهنئ ترمب بعيد ميلاده بطريقة لطيفة جداً” إذ هنأه في مكالمة هاتفية تطرقا فيها إلى “الصراع الإسرائيلي – الإيراني”.
“الصراع الإسرائيلي – الإيراني” يوصف صينياً بأنه “هجوم إسرائيلي على طهران”، و”طهران تدافع عن نفسها وسيادتها”، مع إشارات متكررة إلى “أطراف كثيرة تدين الهجمات الإسرائيلية على إيران”، مع تجديد التنديد الرسمي بـ”انتهاك إسرائيل سيادة إيران”.
يلاحظ كذلك بصورة عامة أن إعلام العالم وقع بدرجات متفاوتة في فخ “التأطير” الإعلامي، أو ما يسمى بـMedia framing. القنوات والمواقع في الدول حليفة إسرائيل ترجح كفة مشاهد الدمار في تل أبيب على سبيل إظهار ما يتعرض له “المدنيون الأبرياء” من اعتداء بسبب الصواريخ الإيرانية. أما مشاهد الدمار في الأراضي الإيرانية فتراوح ما بين اعتبارها أثراً متوقعاً في المواجهات العسكرية أو من باب التغطية “الموضوعية” والإخبارية لما يجري على الأرض، والعكس صحيح في القنوات والمواقع في الدول حليفة إيران، أو التي ترتبط معها بتشابكات مصالح وتوازنات قوة تضمن لها موطئ قدم في الشرق الأوسط.
تأطير الصراع
يشار إلى أن التأطير في الإعلام هو طريقة خفية وغير معلنة في اختيار المعلومات والأخبار وأسلوب عرضها. اختيارات الهيئة التحريرية للجوانب والأحداث التي تركز عليها التغطيات والتحليلات تعكس الأولويات، سواء كانت أولويات الدولة أو مالك المؤسسة أو المصلحة الوطنية، من وجهة نظرها.
هذه الرؤية تسلّط الضوء على أخبار بعينها، ومشاهد دمار أكثر من غيرها، وتحليلات ترجح حق هذا الطرف أكثر من الآخر، والغرض التأثير في الجمهور و”المساعدة” في سن أولوياته.
“الأسد الصاعد” تأكيد لقدرة “الموساد” على اختراق إيران
يشير الباحث في العلاقات الدولية والهجرة في جامعة أوترخت الهولندية علي عامر إلى أن نظريات التأطير الإعلامي والسياسي، التي تنص على أن السرديات السياسية التي تمسّ مشاعر القلق لدى الناس تجد صدى كبيراً لديهم، وهو أمر مرجّح بشدة في أوقات عدم الاستقرار والمصاعب ومنها الصراعات، مثل ما جرى في التغطيات الإعلامية في فترة ما بعد الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 وحتى اليوم. يقول “العواطف سياسية بطبيعتها ذات أبعاد تاريخية”، ويضيف في ورقة عنوانها “إنتاج أزمات الهجرة: السياسة العاطفية للهجرة” (2025) أن التبادلات العاطفية تشكل الحقائق الاجتماعية بصورة واضحة، وتحدد مسارات الانتماء، وذلك عبر تشارك المساحات والمشاعر المشتركة، وأيضاً باستبعاد الآخرين.
ويشير عامر إلى أن المشهد السياسي القلق يتّسم دائماً بعدم اليقين والتوتر، لا سيما في تصاعد الشعور بأن شيئاً ما مجهولاً على وشك الحدوث في المستقبل، خصوصاً القريب، مضيفاً أن الساسة يتنافسون على أجندة الجماهير العاطفية، ويقدمون روايات تعالج المخاوف القائمة، أو تخلق مخاوف جديدة، ويقترحون سياسات للتخفيف منها.
تغطية بحسب المطلوب
وعلى مقربة من ذلك، يقبع الإعلام الذي “ينقل” ما يجري، أحياناً عبر إيلاء اهتمام مبالغ فيها، أو أقل مما ينبغي، أو مكتفياً بزاوية من دون أخرى، حيث معرفة يقينية بأن التهديدات المتصورة القائمة على عدم اليقين تتطلب تعاملاً إعلامياً مختلفاً. ويُمَكن القلق والغضب السياسيين، لا سيما في حال وجود تهديد يوصف بـ”الوجودي”، من وضع إستراتيجيات إعلامية تعتمد على تقديم تأطير المعلومات والتحليلات بصورة تثير أو ترسخ أو تقلل ردود فعل عاطفية معينة عبر المنصات الإعلامية.
الحرب الدائرة حالياً تأتي متخمة بما يكفي ويفيض من مسببات لردود فعل عاطفية وغير عاطفية. وعلى رغم ذلك، فإن وسائل الإعلام المختلفة تدمج مكوناً جيوسياسياً بالغ القوة والوضوح في تغطياتها الحالية. والإعلام العربي ليس استثناءً، بل يمكن القول إنه الأكثر اعتماداً، وربما اضطراراً، للاعتماد على الأبعاد الجيوسياسية، وبالطبع السياسية وما فيها من توازنات ومصالح وعداءات.
المشهد الجديد الحديث في الشرق الأوسط، والتحولات الحادثة في موازين القوى وتغير دفات التوازنات وغيرها من المجريات، تلقي بظلالها على التغطيات الإعلامية العربية للحلقة الحالية في الحرب.
الصراع الطويل المدى بين إيران ووكلائها من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، والصراع العربي – الإسرائيلي وتحولاته، وحرب إسرائيل في غزة، والضربات الموجعة، وفي أقوال أخرى المميتة التي وُجهت لحلفاء إيران وعلى رأسهم “حزب الله” والحوثيون جميعها يظهر جلياً على شاشات ومواقع العرب الإخبارية.
موضوعية قدر المستطاع
بين منصات تحاول جاهدة الإبقاء على إطار “موضوعي” في التغطية، وأخرى غارقة حتى أذنيها في الانحياز لطرف هو إيران، وثالثة تجد نفسها في وضع صعب يصفه بعض المتابعين بـ”بالغ الحساسية” إذ تربطها علاقة “عدم ود” وربما عداء بإيران، لكن في الوقت نفسه، تمثل إسرائيل بالنسبة إليها “العدو التاريخي” تدور دوائر التغطيات الإعلامية العربية.
وعلى رغم الحرص البالغ والتركيز الواضح لعدم ذكر مسميات مثل “المحور الشيعي” أو “محور المقاومة” أو غيرهما من المسميات المحملة أيديولوجياً أو عقائدياً، فإن ما في القلب والعقل يبقيان في القلب والعقل.
عقول المراسلين العرب وخبراتهم المتراكمة، التي حقق كثير منها نقلات نوعية في تغطية حرب إسرائيل في غزة على مدى الـ18 شهراً السابقة، تتحدث عن نفسها أمام الشاشات. لم تعد مهماتهم مقصورة عند حدود “ورائي الآن يحدث كذا”، أو “قبل قليل قال الوزير الفلاني كذا”، بل أصبح كثير منهم أكثر حنكة وقدرة على تحليل ما يجري (كلّ بحسب توجهات مؤسسته المنتمي إليها مع قدر مما يحمله من قناعات) من جيوش المحللين والمتخصصين.
وعلى ذكر جيوش المحللين والمتخصصين، ومنهم المحلل الدوار الذي يخرج من استوديو هذه القناة ليقبع أمام شاشة هذا الموقع ومنها إلى مداخلة هاتفية مع قناة أخرى، ومنهم أيضاً المتخصص المحنك المرتبط بقناة وموقعها دون غيرها، فإن “التأطير الإعلامي” المشار إليه أعلاه من جهة اختيار الزوايا وانتقاء الأخبار والتركيز على جوانب يظهر بوضوح هذه الآونة.
2025-06-13T192520Z_1741777494_RC2V1FAAT1TJ_RTRMADP_3_IRAN-NUCLEAR-KHAMENEI.jpg
المرشد الإيراني علي خامنئي (أ ف ب)
ويظل هناك جانب بالغ التأثير في تشكيل الرأي العام وتوجيهه وتأجيجه أو إخفاته، ألا وهو المحللون والمتخصصون العصاميون الذي صنعوا أنفسهم بأنفسهم، أو الذين صنعوا أنفسهم بمساعدة السوشيال ميديا وخدمات وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
يمكن القول إن نسبة “الهبد العنكبوتي” في هذه الحرب طاغية ومعتددة الجنسيات ومتناقضة الأهداف والأغراض. على مدى الساعة، لا، على مدى الدقيقة، تنضح منصات السوشيال ميديا بكم غير مسبوق من المحتوى التحليلي والإخباري. أخبار لا حصر لها، والنسبة الكبرى منها غير قابةل للتحقق، لأنها ببساطة على عهدة الراوي.
تحليلات ما أنزل الله بها من سلطان تنزل على رؤوس المستخدمين القلقين المتوترين. وبين إسرائيل تنتصر، وإيران تتقدم، ودول تدعم محور الشر، وأمم تساند صوت الحق، مع قدر غير قليل من صبغات محلية، سواء للنيل من نظام ما أو فرصة للانقضاض على نظام آخر، وبين هذه التلال من أشباه الأخبار والجبال من التحليلات المتداخل فيها الخيال بالواقع، يندس كثير من “الأعداء” مدونين ومغردين وناشرين صوراً وفيديوهات الغرض منها التأثير في الجانب الآخر.
ألوان جيوسياسية
التغطيات الإعلامية في أنحاء الأرض، لا سيما الغربية والعربية، كثيراً ما تلوّنت بوجهات النظر الجيوسياسية وكذلك العقائدية، في ما يتعلق بالملف الإيراني، بما في ذلك الإعلام الإيراني نفسه. هذه الألوان تصل أقصاها في الحرب الدائرة حالياً، لا سيما حين يكون الغريم إسرائيل، لا دولة عربية أو إسلامية أخرى، وحين يعلم الجميع أن إسرائيل تواجه إيران وتعضد من شأنها وتقوّي من عزمها الولايات المتحدة الأميركية.
أشارت دراسة أجرتها مجموعة من الباحثين الإندونيسيين في جامعة بادجاداران الإندونيسية عنوانها “تحليل لتأطير الصراع الإيراني – الإسرائيلي في 2024” (2024) إلى الدور الجوهري الذي تؤديه وسائل الإعلام التقليدية عبر منصاتها القديمة أو الحديثة، وكذلك “السوشيال ميديا” في بث المعلومات والأخبار، وهو ما يضع مسؤولية أخلاقية عليها، لا سيما في ما يتعلق بالصراع بين الأمم، لكن في حال الصراع التاريخي بين إيران وإسرائيل، فقط اتسمت بالعمليات السرية والحروب بالوكالة، حتى إن العلاقة بين البلدين تعرف بـ”حرب الظل”.
وقت نشر الدراسة لم تكن حرب الظل قد تحولت إلى حرب الصواريخ والمسيرات والقصف والاستهداف، لكن تأطير أو نظرية الاختيار الانتقائي في تناول الإعلام كان موجوداً، ويتوسع الآن. وعبر تحليل المحتوى الإعلامي لثلاث مؤسسات إعلامية هي: صحيفة “كومباس” الإندونيسية اليومية، وموقعا “الجزيرة” القطري و”نيويورك تايمز” الأميركي، وجدت أن الصراع بين الدولتين مرشح للتوسع نحو حرب عالمية ثالثة أو صراع عسكري عالمي، وهو ما أكده تحليل المحتوى في العام الماضي.
الدراسة سلطت الضوء على التحيزات في الوسائل الإعلامية الثلاث، والجوانب التي اختارت كل منها أن تركز عليها أو تغفله أكثر من غيرها، أو بمعنى آخر اختيار جوانب معينة من القصة الإخبارية والتركيز عليها للتأثير في التصور العام لخلق سرد خبري ومعلوماتي يتماشى وأهداف بعينها، غلبت على هذه الاختيارات الجوانب الجيوسياسية التي يقوم عليها الصراع.
في زمن ما قبل تفجّر الصراع من “حرب ظل” إلى حرب أرض وسماء وما بينهما، غلبت وجهات نظر الدول والأنظمة والمصالح على التغطيات الإعلامية شرقاً وغرباً، وفي زمن الحرب الفعلي، تستمر هذه الغلبة وتتصاعد.
تستمر الحرب، وتستمر التغطية الإعلامية، وتستمر النسخ المختلفة في السرد، كل مصحوب بحججه وصوره وفيديوهاته وتحليلاته. العامل الوحيد الذي سيوحد كل السرديات هو نتيجة الحرب على الأرض، وإن اختلفت في تحديد المنتصر والمنهزم، كل بحسب سرديته أيضاً.
دمية واحدة على إحدى الشاشات لخصت الموقف. الشاشة منقسمة إلى أربع نوافذ: المذيع في الاستوديو، مراسل في طهران، متخصص في تل أبيب، وصورة لدمية على هيئة رضيعة وسط الركام. المراسل يحكي عن “العدوان” الإسرائيلي وترويع المدنيين وصراخ الأطفال، المذيع يتبرّع بالإشارة إلى الدمية الملقاة وسط الركام ويقول “هذه الدمية تقول كثيراً”، يتدخل المتخصص من تل أبيب، ويؤكد غاضباً أن الدمية في تل أبيب وأن الركام ناجم عن “العدوان” الإيراني، ليخرج الجميع في فاصل قبل أن يعودوا بعد حذف نافذة الدمية.