رغم الخلافات بين رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بنيامين نتنياهو وبعض قادة الدول الغربية، وتحديداً أميركا، إلا أن حدّتها بدأت تظهر علناً مع وصول حرب غزة إلى مستوى عال من العنف وارتفاع أعداد القتلى المدنيين الفلسطينيين بشكل بات يلحق الأذى في مكانة الجهات الداعمة لإسرائيل. فكلام الرئيس الأميركي جو بايدن حول إمكانية خسارة إسرائيل للرأي العام الغربي بسبب فظاعة القصف للأهداف المدنية يعكس درجة من التململ المتصاعد الذي سيتفاقم مع طرح سيناريوهات ما بعد حرب غزة جدياً على الطاولة. كما تؤثر هذه الضغوط والترتيبات لما بعد الحرب على القرارات الميدانية للقادة العسكريين في إسرائيل، إذ إن هناك تناقضاً بين الضغوط الدولية والاستراتيجية العسكرية.
واشنطن تريد وضع جدول زمني لإنهاء حرب غزة لا يتجاوز بضعة أسابيع، وتشترط استمرار دعمها العسكري اللامحدود لإسرائيل بأن تعمد الأخيرة للتوقف عن القصف العنيف العشوائي، أو أقله التخفيف من حدته، ضد الأهداف المدنية من مبان وأبراج ومجمعات سكنية ومستشفيات. لكن القيادة العسكرية الإسرائيلية تعتمد استراتيجية الأرض المحروقة في عمليات التقدم البري من أجل الحد من الخسائر في صفوف مقاتليها. فهي تدرك أن استراتيجية حماس هي إلحاق أكبر عدد ممكن من الخسائر في صفوف الإسرائيليين من أجل تقليب الرأي العام الداخلي في إسرائيل على قرار الحرب ضد غزة. فالتجارب السابقة كشفت مدى تأثر الشارع الإسرائيلي بارتفاع الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي، والذي يتأثر أيضاً بالضغوط الاقتصادية والمعيشية التي تترافق مع الحروب الطويلة. وعليه، فإن حماس تحاول الاستمرار في استهداف العمق الإسرائيلي بالصواريخ وفي نصب الكمائن للقوات الإسرائيلية في شمال القطاع وفي خان يونس ومحيطها.
لكن يبدو أن إسرائيل تحاول إحباط استراتيجية حماس عبر اعتماد تكتيكات عسكرية تعطي أولوية لاستمرار التقدم البري دون وقوع خسائر كبيرة في صفوفها. فطريقة عملها تظهر أنها تعتمد مقاربة التقدم والتراجع التكتيكي والمناورة الهجومية والانطلاق من مناطق ارتكاز محمية من داخل كل من البلدات والمخيمات والمدن المستهدفة. فهي تتجنب الانتشار الواسع في أماكن السيطرة حتى لا تقدم بنك أهداف كبيراً لمقاتلي الفصائل الفلسطينية، وتقوم عوضاً عن ذلك بتنفيذ عمليات توغل داخل الأحياء المستهدفة بحثاً عن الأنفاق ومخازن الأسلحة. وبعد الانتهاء من تمشيط الحي تعود إلى نقطة التجمع وتستعد لعملية تمشيط في حي آخر. هذا التكتيك يتطلب وقتاً أطول مما قد تكون واشنطن مستعدة لمنحه، إنما يبدو أن القيادة العسكرية الإسرائيلية مصممة على تنفيذه لأنها لا تستطيع أن تعلن انتهاء الحرب ما لم تتأكد من تدمير مصانع ومخازن الصواريخ والبنية التحتية العسكرية لحماس في قطاع غزة. وعليه، فإن دعوة أميركا وقوى غربية أخرى للتعجيل في إنهاء العمليات والتخفيض من حدة القصف لا تتماشى مع الاستراتيجية والتكتيكات العسكرية الإسرائيلية.
لكن في الوقت عينه، فإن القيادات الأميركية تكرر في تصريحاتها ضرورة إنهاء الوجود العسكري لحماس في غزة كشرط لوضع خطة لإدارة القطاع إدارياً وأمنياً بعد الحرب. وهذا يعني أنها تؤيد أهم الأهداف العسكرية التي وضعتها القيادة الإسرائيلية لهذه الحرب، وهو تدمير البنية التحتية العسكرية لحماس في القطاع. وعليه فهي تؤيد استمرار العمليات العسكرية في الوقت الراهن. وقد نشهد هدنة جديدة في فترة الأعياد تهدف لإطلاق سراح من تبقى من مدنيين في قبضة الفصائل الفلسطينية في غزة ضمن صفقة شبيهة بالماضية تؤدي لإطلاق أسرى فلسطينيين وإدخال مساعدات للقطاع. لكن الحرب قد تستمر لأواخر شباط (فبراير) المقبل.
لكن تبقى الأهداف الخاصة لنتنياهو والأحزاب اليمينية المتشددة في ضرب البنية التحتية المدنية في القطاع والضفة الغربية بقصد تهجير سكانهما الفلسطينيين لمصر والأردن. فهذه الأهداف رفضت عربياً ودولياً، وخاصة من قبل أميركا والقوى السبع في مؤتمر طوكيو الأخير. وتحدث نتنياهو مؤخراً عن إمكانية شن حرب ضد الضفة الغربية التي تشهد حملات يومية من القوات الإسرائيلية التي تقوم بتدمير ممنهج للبنية التحتية هناك تدميراً غير مبرر وسط إدانات وتحذيرات من الخارج والداخل لتداعيات هذه السياسة.
ويتحدث العديد من المراقبين في إسرائيل والغرب عن تضارب بين مصالح إسرائيل ومصالح نتنياهو وبعض قادة الأحزاب اليمينية الحليفة من جهة، ومصلحة دولة إسرائيل من جهة أخرى. فنتنياهو وحلفاؤه يريدون إطالة أمد الحرب وتوسيعها لتشمل الضفة الغربية وربما لبنان من أجل البقاء في السلطة أطول مدة ممكنة على أمل تسجيل انتصارات تمحو الفشل الكبير الذي لحق بالحكومة في منع هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر).
فتوسيع أهداف الحرب لخدمة الأهداف الأيديولوجية والشخصية للقادة الإسرائيليين سيضر بمصالح باقي الجهات في إسرائيل ومصالح الغرب بأسره ويضرب فرص إحياء عملية السلام ضرباً قاتلاً. ولذلك، تتصاعد الحملة الإعلامية على نتنياهو وحكومته في الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية والأوروبية. كما يزداد الحديث عن ضرورة تشكيل حكومة إسرائيلية فور تحقيق الأهداف العسكرية الرئيسية والتوصل إلى وقف لإطلاق النار، وذلك من أجل الإشراف على المرحلة الأولية لما بعد الحرب وإجراء انتخابات تشريعية تخرج اليمين المتشدد من الكنيست والحكومة، وتمهد لوصول حكومة منفتحة على حلول سياسية تحيي عملية السلام مجدداً في المنطقة.
وبناءً على ما تقدم، فإن الأنظار اليوم ستبقى على الميدان. فإن فقدت القيادة الإسرائيلية الدعم الداخلي والخارجي للحرب فإنها ستضطر لوقف القتال وتنجو حماس وتتعزز مكانتها السياسية في القطاع وحتى داخل الضفة الغربية. أما إذا ما تحملت إسرائيل فقدان أعداد كبيرة من جنودها وتقبل الرأي العام الداخلي هذه الخسائر بسبب تنامي شعور الخوف لديهم من تهديد حماس، واستمر الدعم الأميركي، فهذا يعني أنها ستستمر بتوسيع عملياتها البرية وتطهير كل الأحياء حتى الوصول إلى الأنفاق ومخازن الأسلحة والصواريخ، ما سيؤدي لانهيار البنية التحتية العسكرية لحماس. وهذا سيؤدي لتعزيز دور السلطة الفلسطينية، لكن على الأرجح تحت قيادة جديدة برعاية عربية-دولية ودعم منهما. هذا لن يعني نهاية حماس الموجودة معظم قياداتها السياسية في الخارج، وتتمتع بشعبية واسعة في الداخل. وقد تعود للساحة السياسية الداخلية في الضفة الغربية وقطاع غزة مع أول انتخابات تشريعية هناك.
أما حلفاء حماس وعلى رأسهم إيران، فهم أيضاً يتطلعون لمكاسب من هذه الحرب. فيبدو أن إيران قبضت ثمناً جيداً لعدم توسيع جبهة الحرب ظهرت بعض أشكاله بإفراج واشنطن قبل أيام عن عشرة مليارات دولار من بعض أموالها المجمدة في عمان نتيجة العقوبات. كما أن إيران أبقت على محادثات السلام بين الحوثيين والسعودية لإنهاء حرب اليمن، رغم استمرار هجمات الحوثيين على السفن في باب المندب. أما في جنوب لبنان، فقد ساهمت إيران في إبقاء “حزب الله” ضمن قواعد الاشتباك رغم شدة الرد الإسرائيلي. وقد يسجل “حزب الله” بعض المكاسب السياسية والاقتصادية في لبنان مستقبلاً إذا ما أبقى إيقاع المواجهات في الجنوب مضبوطة. لكن ستشهد منطقة عمليات اليونيفيل تغييرات مهمة بعد حرب غزة، وهي رهن الاتصالات التي تشارك فيها باريس وواشنطن والدوحة والرياض وطهران لتوفر واقعاً أمنياً يسمح لآلاف المستوطنين الإسرائيليين بالعودة إلى بيوتهم في شمال إسرائيل، دون التأثير على مكانة “حزب الله” محلياً. فحرب غزة ساعدت في إبراز مكانة إيران العسكرية والسياسية في المنطقة، وأرغمت الأطراف الدولية والمحلية على التعامل معها. لكن تسارع الأحداث في الميدان على جبهات عدة يزيد من إمكانية حدوث مفاجآت تغير في الحسابات والنتائج. فلا خطط مضمونة ولا اتفاق قابل للتنفيذ مع استمرار دوي أصوات المدافع.