لم تستطع “هيئة تحرير الشام”، كما كان متوقّعاً، استيعاب التداعيات المحتملة على اعتقال القيادي البارز في صفوفها أبي ماريا القحطاني، العراقيّ الجنسية، بتهمة العمالة والتخابر مع جهات أجنبية، في منتصف شهر آب (أغسطس) الماضي.
ويبدو أن الصراع بين تيارين في داخل الهيئة، قد حُسم عملياً لمصلحة تيار بنّش، وهو ما يدلّ إليه هروب القيادي البارز أبو أحمد زكور (جهاد عيسى الشيخ) إلى مدينة أعزاز معقل “الجيش الوطني السوري” الموالي لتركيا، وما أعقبه من تسريبات كثيرة بخصوص ملاحقة قياديين آخرين ينتمون إلى تيار الشرقية الذي كان يقوده القحطاني وزكور.
 وقد يكون من أخطر ما تضمنته التسريبات هو هروب أبو حسن الحموي، القائد العسكري العام للهيئة، بعد أيام من اعتقال مرافقه الشخصي بتهمة العمالة للخارج، إلى جانب ملاحقة آخرين، وسط أنباء متضاربة عن مصير أبي ماريا القحطاني بين من يقول إنه قُتل تحت التعذيب، ومن يؤكد أنه لم يقتل لكنه نُقل إلى المستشفى.
وقد مثّل اعتقال أبي ماريا القحطاني في 17 آب الماضي هزّة قوية للبنية التنظيمية لـ”هيئة تحرير الشام”، بسبب الثقل التأسيسي الذي كان يمثله الرجل وعلاقته الوثيقة والطويلة بأبي محمد الجولاني، زعيم الهيئة، التي تعود في جذورها إلى عام 2003 عندما عملا سويّة مع جماعة أبي مصعب الزرقاوي التي تطورت لاحقاً وأصبحت تنظيم “داعش”.
وقد أدّى الاعتقال إلى بروز الخلاف بين تيارين اثنين في داخل الهيئة: التيار الأول هو تيار الشرقية الذي قاده القحطاني وزكور مستغلين علاقاتهما القوية بأبناء العشائر العربية، وامتلاكهما مفاتيح أسرار الجولاني منذ بدء مسيرته الجهادية في العراق. والتيار الثاني هو تيار بنش الذي يقوده المغيرة بنش وأبو حفص بنش، قريبا زوجة الجولاني الإدلبية، وعبد الرحيم عطون المفتي العام للهيئة.
واضطر توازن القوى بين التيارين أبا محمد الجولاني إلى التعامل بحذر مع قضية اعتقال أبي ماريا القحطاني، وقد نجحت الضغوط التي مارسها تيار الشرقية إلى إخراج القحطاني من المعتقل ووضعه قيد الإقامة الجبرية بالتزامن مع إصدار بيان بلهجة مخففة وصف التهمة الموجهة إليه بأنها “خطأ في التواصل من دون مراعاة حساسيات منصبه”.
وكان تيار الشرقية يحاول أخيراً الضغط من أجل تأمين محاكمة علانية للقحطاني بهدف إحراج تيار بنش بسبب المعلومات السرية والخطيرة التي يمكن أن يكشفها أثناء محاكمته، والتي من شأنها أن تدين قيادات كبيرة في هذا التيار.
ويبدو أن تيار بنش وجد أن الحل الوحيد للتخلص من ضغوط تيار الشرقية هو تصويب جهوده ضد أبي أحمد زكور الذي كان لا يزال يقود تيار الشرقية ويوجهه بحرية تامة. وقد نجحت دسائس أقرباء زوجة الجولاني في إقناع الأخير بضرورة رفع الحصانة الجهادية عن زكور وزجّه في المعتقل إلى جانب زميله القحطاني. لكن زكور الذي يمتلك شبكة علاقات واسعة في صفوف الهيئة جعلته يكشف مسبقاً ما يحاك ضده، تمكن من الفرار مع أبرز القادات المحسوبة عليه، وانتقل إلى مدينة إعزاز التي طالما زارها في السنوات الماضية للتقرب من قيادات بعض الفصائل وهو ما نجح فيه عملياً.
وقد أصدر زكّور بياناً ملتبساً لم يعلن فيه انشقاقه عن “هيئة تحرير الشام” لكنه لم يستبعد حدوث ذلك في أي لحظة، وهو ما دفع الهيئة إلى مداهمة بعض مقاره في منطقة رأس الحصن وباتبو وعقربات، ولم يكن الهدف من المداهمة اعتقال زكور لأن الجهاز الأمني العام كان قد علم بهروبه، بل شاءت قيادة الهيئة توجيه رسالة إلى أنصاره ومجموعاته الأمنية والعسكرية بأن اللعب بات على المكشوف من الآن فصاعداً.
وبينما كانت الأنظار متجهة إلى الخلاف بين الجولاني وزكور لمعرفة تفاصيله ومآلاته، كانت هزّة جديدة بانتظار قيادة “هيئة تحرير الشام”، تمثلت في تسريب معلومات عن هروب أبو حسن الحموي القائد العسكري العام في الهيئة إلى منطقة درع الفرات بعد ما يقارب الشهر من اعتقال مرافقه الشخصي وإخضاعه للتحقيق في ملف العمالة  للخارج.
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد أكد في تقرير نشر في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أن جهاز الأمن العام في الهيئة اعتقل ثلاثة عناصر مرافقين مقربين من قيادات الهيئة، ووفقاً للمصادر فإن العناصر الذين جرى اعتقالهم هم من المقربين للقيادي العسكري في الهيئة “أبو حسن 600” وهو نفسه أبو حسن الحموي، واسمه الحقيقي مرهف أبو قصرة.
وجاءت هذه الحملة التي تشنها الهيئة، وفق تقرير المرصد، لكشف الخلايا الأمنية المخترقة في صفوف العسكريين، وتسعى من خلال الاعتقالات إلى منع تكرار عمليات الاستهداف التي تنفذها طائرات مسيّرة تابعة للتحالف الدولي والتي تستهدف قياديين غالبيتهم ينتمون إلى فصائل إسلامية ضمن مناطق متفرقة من إدلب وريفها، إذ تتم هذه الاستهدافات بعد حصول التحالف الدولي على معلومات كاملة عن مكان وجود هؤلاء المستهدفين عن طريق متعاونين.
غير أن رواية هروب الحموي تعرضت للتشكيك وسط من يدّعي أن جهاز الأمن العام تمكن من إلقاء القبض عليه قبل تمكنه من الفرار إلى خارج مناطق سيطرة الهيئة.
في غضون ذلك، ذكرت مصادر مناهضة لـ”هيئة تحرير الشام”، أن فرار زكور وبروز الخلاف مع الحموي دفعا الجولاني إلى إعطاء الضوء الأخضر للتحقيق بقسوة مع أبي ماريا القحطاني لإجباره على الكشف عما يمتلكه من معلومات حول الرجلين. وأكدت المصادر أن القحطاني منذ فرار زكور يتعرض لتعذيب شديد لدفعه إلى الاعتراف بأسرع وقت. وقد تضاربت الأنباء بين من يقول إن القحطاني مات تحت التعذيب، ومن يقول إنه تعرض لإصابات اضطرت إلى نقله للمشفى. مع عدم إغفال أن تسريب هذه المعلومات قد يكون مبالغاً فيه لأن تيار الشرقية بقيادة زكور يريد تحريض أنصار التيار على التصعيد مع التيار الآخر.
وذكرت المعلومات أيضاً اعتقال جهاز الأمن العام أبا مسلم الشامي وهو يشغل منصب القائد العسكري في “لواء أبي بكر الصدّيق”، أحد ألوية “هيئة تحرير الشام”.
وذكرت المصادر أن الجولاني غدر بأبي مسلمٍ الشَّاميِّ، إذ رتَّب الأمر مع أبي الخير تفتناز الذي دعاه الأربعاء إلى جلسةٍ عسكريَّةٍ السَّاعة 3 عصراً يُفترض أنَّها من أجل محور الفوج 46، وقبيل وصوله بقليلٍ جاءت مجموعةٌ أمنيَّةٌ ملثَّمةٌ تتبع للجولانيِّ واعتقلت أبا مسلمٍ مع مرافقه وصادرت سيَّارته وجوَّاله وقبضاته واقتادته إلى جهةٍ مجهولةٍ مع تكتُّمٍ شديدٍ على سبب الاعتقال الذي لا يُعرف حتَّى اللَّحظة.
والمفارقة أن اعتقال الشامي جاء بعد تحريضه ضد أبي مرايا القحطاني ومطالبته بمحاكمته وملاحقة كل الخلايا التابعة له، وكذلك تحريضه ضد أبي حسن الحموي، وهو ما يعني عملياً أن تيار الشرقية قد لا يكون خسر كل أوراق قوته في داخل صفوف الهيئة.