الناس هناك فقدوا كل شيء إلا الأمل بوقف القصف الإسرائيلي وقطع دابر العدوان

إسرائيل تواصل قصفها قطاع غزة والصحة العالمية تحذر من انتشار الأوبئة (أ ف ب)

يتفق معظم اللغويين والمؤرخين على أن اسم غزة جاء من العزة والقوة والمنعة، لكن اسم “قطاع” تفردت به غزة والمناطق المحيطة بها مثل رفح وبيت لاهيا وبيت حانون والمخيمات التي بداخل القطاع مثل مخيم جباليا ومخيم النصيرات ومخيم المغازي وهكذا. أقول إن قطاع غزة تفرد بكلمة قطاع بصورة حصرية تقريباً، وبدأت تدخل الأدبيات السياسية والجغرافية العربية منذ عام 1949 بعد هدنة بين مصر وإسرائيل عرفت بهدنة رودس، نسبة إلى جزيرة رودس اليونانية.

كلغوي، رحت أهلوس بالقلم في كلمة القطاع وأصلها ومشتقاتها، عل هلوسة القلم تنسيني أخبار غزة التي “تقطع” القلب، فوجدت العجب العجاب اللغوي بمعانيها واستخداماتها، فهي مشتقة من مصدر “قطع”، كأن نقول إنه لا يختلف اثنان ولا تنتطح عنزتان على أنها عقوبة جماعية، قطع إسرائيل للماء والكهرباء والغذاء عن القطاع، بل حتى قطع الهواء باستخدام القنابل الفراغية التي تفرغ الهواء في دائرة سقوطها محدثة ضغطاً يخالف أضلاع البشر فيموتون في الحال.

والحق أن انقطاع الماء أو الكهرباء سائد في دول عربية مختلفة بسبب الفساد والتخلف والحروب الداخلية، وقد غنى عصام رجي، “يا سمرا يا تمر هندي، يا أطيب مشروب عندي، كل ما بقول لها اسقيني شوي، بتقول لي ما عندي مي، المي مقطوعة يا أفندي”.

والقطعة هي الصغير من الشيء، كقطعة الحلوى أو قطعة لحم، والابن قطعة من الكبد. ولوصف بشاعة القتل بالسكين يقول المصريون الذين يقلبون القاف همزة، “أطعوه حتت” (قطّعوه لأجزاء صغيرة)، لكن القطعة هي الجزء من المباني السكنية بالتقسيم السكاني في الكويت  وربما في غيرها، كأن نقول إن فلاناً يسكن في منطقة اليرموك بالكويت، قطعة 1 أو قطعة 2 وهكذا.

والقطيعة هي انقطاع التواصل، وفلان “قطوع” أي لا يصل رحمه ولا خير فيه، والمفارقة أن قلب الحرفين الأولين بـ”قطوع”، الذي لا تسمح الصحيفة بنشره، يعني أيضاً لا خير فيه.

ووردت “قطوع” في قصيدة شهيرة لبركات الشريف موصياً ابنه،

لا تحسب أن الله قطوع مخليك *** ولا تفرح أن الله على الخلق بداك

والانقطاع يرتبط بالأخبار أيضاً، “انقطعت أخباره”، ويرتبط بالخطوط الهاتفية، “انقطع الخط”. وأنهت فيروز أغنيتها “ستي يا ستي” من كلمات الرحابنة “ألو! ألو! انقطع الخط”. ويردد المعلقون الرياضيون على لعبة كرة القدم كثيراً كرة مقطوعة وقطع الكرة.

 

وقطع تعني أيضاً سار ومر وبعد، وفي روايات التراث، “وراح على فرسه يقطع الفيافي والقفار”، وقطع المتسابق الماراثوني مسافة كذا وكذا. وجاء في قصيدة راشد أبودباس النبطية الشهيرة

ولا فأنا يابوك قطاع الأرماس *** ماني بمثبور ورجلي كسيره

ولكنها تقال بالخبير الذي سار كل الدروب في كل الاتجاهات الأربع، زينها وشينها، فيقال “فلان مقطع أربع”، كما يقال “مقطع أربع، الله يقطعه”.

والدعوة بالقطيعة تستخدمها النساء في الخليج، واشتهر بها الفنان الكويتي الراحل عبدالعزيز النمش بدور المرأة “قطيعة” أو قطع”. ويقول بعضهم بلهجات الخليج، “قطعا” بمعنى قطعه الله! كما تشيع دعوة “الله يقطعه”، والقطع هنا بمعنى انقطاع النسل.

ولعل المقطع يختلف بالمعنى عن القطعة، فنقول مقطعاً مسرحياً، ونقول مقطعاً فكاهياً، ويندر أن نقول قطعة فكاهية أو قطعة مسرحية، ومقاطع متفرقة تعني مشاهد متفرقة، والمشاهدة تعني الرؤية بالعين، والقطع على شيء باللهجة تعني التحقق منه بالنظر، كنت أسمع كبار السن يقولون “ما أقطع عليه” أي لا أستطيع أن أتحقق منه وأبصره. كما أن القطع بالشيء يعني التأكد منه، فيقال قطعاً بمعنى حتماً. والقطعية هي الجزم بالشيء حين “تقطع عهداً على نفسك”. “أنا قطعت، مثلاً، على نفسي أن أنهي ترجمة كتاب بدأتها بداية هذا الشهر في آخره”. أسوق هذا التعهد على سبيل المثال لا أكثر.

والقاطع تعني القطاع أيضاً، وكانت تتردد كثيراً بصوت الجماهير في بغداد أثناء الحرب العراقية- الإيرانية، قامت قواتنا الباسلة اليوم بمهاجمة العدو في القاطع الأوسط، وليخسأ الخاسئون.

والقاطع هو الحاجز، وكانت بيوت الشعر تقسم إلى قواطع وتسمى أروقة. والمقطعة باللهجة تعني الأرض الخالية من السكان، “ساكن بمكان مقطوع”، وذيب المقطع تقال بوصف من يقطع القفار من دون خوف.

وفي الانتخابات الكويتية يقال “فلان واقطع”، أي صوت لفلان واقطع الصوت عن بقية المرشحين.

والمقاطعة تعني عدم التعامل مع جهة أو دولة ما، مثل مقاطعة إسرائيل أو منتجات الشركات التي تدعمها، لكنها تعني القطاع أيضاً، مثل مقاطعة كيبيك في كندا، ولا نقول مقاطعة غزة.

والقطيع يرتبط بمجموعة الحيوانات، وتنتشر في أدبياتنا السياسية لوصف المستوطنين فيقال قطعان المستوطنين في الضفة الغربية يسومون الفلسطينيين الخسف، أو لوصف أتباع المحور الإيراني من العرب “قطعان الصفيونيين” ومفردها “صفيوني” من تركيب كلمتي صفوي + صهيوني.

تجري في قطاع غزة مأساة للبشر منذ أكثر من شهرين، فعلى مدى الأسابيع الثمانية الماضية، نعد الضحايا الذين تجاوزوا الـ20 ألفاً وأضعافهم من الجرحى ونصف عددهم من المفقودين، وانتشار أمراض وأوبئة تقول منظمة الصحة العالمية إنها ستحصد من الضحايا أكثر مما قتلته الحرب نفسها. كما أن مليوني إنسان يحتشدون في العراء والبرد والجوع على الحدود مع مصر بعد أن هدمت بيوتهم، وفقدوا كل شيء إلا الأمل بوقف القصف الإسرائيلي وقطع دابر العدوان.