يطرح الرسام اللبناني شارل خوري سلسلة من أعمال جديدة في غاليري “إل تي” البيروتية. لا تفترق الأعمال عن سابقاتها التي قدّمها في معرضه الأخير “ما وراء الحدود” بل تبدو تطويراً لها وتوسيعاً لأفقها، فهو يضيفُ إليها تلك الاستدعاءات المتنوعة لأشكال بشرية وحيوانية. استدعاءات هي بمثابة اقتراحات تستند إلى حيثيات لونية تمتلك مساحات بصرية هائلة ومترافقة مع قدرة أسلوبية على إيقاف اللوحة عند حدود الشكل الهندسي ، بحيث يتحول المشهد إلى مجموعة مفردات لونية متمترسة داخل فضاء اللوحة.
تترواح الأعمال بين الغموض والوضوح، الانحلال اللوني والعدم والبقع الداكنة التي تطلّ من حين لآخر، مصحوبة بنقاط وخطوط وتلاوين تعود لكائنات بدائية، هي كائنات خوري التي يبنيها ويتدرج في نقلها وترجمتها لتصير بصمة أو واقعاً حاضراً لا متخيلاً. تبدأ الأعمال من مكان موحّد وخلفيّة موحّدة، لو تمّ جمعها بعضاً مع بعض، لشّكلت فضاءً متماسكاً ذا لطخات لونية بريئة ومدروسة.
المعرض متفرّق ولا يقدّم حالة واحدة، وإنّما حالات موزّعة وانطباعات متزاحمة ومحتشدة. تتركُ خلفها تساؤلات حول هذه المخلوقات الغريبة ضمن مواقع ومقاييس غير متناسقة. تتحول الخلفيات شيئاً فشيئاً في لوحة خوري إلى أمكنة، هذه الأمكنة تحيل إلى سردية تستند إلى الذاكرة وتعوّل عليها. للوهلة الأولى يخالُ النّاظر أنه أمام رسوم طفولية، لكنّ هذه الانطباعات سرعان ما تنقلب إلى نقيض محيّر. ثمّة ما هو أكثر من اللعب خلف الألوان المرحة التي تحاول أن تضيء عزلة هذه الكائنات.
الناظر إلى أعمال خوري يكتشف أنّ هناك كثافة لونيّة تغطي مساحات متنوعة من الأشكال الهندسية، تتوزع على مساحات شكلانيّة تحاول الانغماس في الأسود والظلمة، وصولاً إلى الألوان. وبالتالي تجعل من لوحة خوري مزيجاً متناغماً من كل شيء، البقع اللونية، البناء والسطوح التي تتحرك داخلها كائنات خوري وسع مساحة شاسعة، هي أساس في بنيتها تسمح للناظر بأن يبصر تموضع هذهالكائنات داخل العالم أو داخل إطار لوني.
تتوزّع اللّوحات في صالة واحدة متعدّدة الزوايا، وأبطال هذه اللوحات، الشخصيّات الحيوانيّة والبشريّة، تطالعنا أحياناً كمسوخ هجينة مسكونة بالريبة والخوف، وأخرى عارية مليئة بالنتوءات والتجاويف. تنتقل هذه الكائنات وتسعى طيلة الوقت لاقتراح تأليف وصوغ للوحة. امتلاء بمعنى ما، نظراً إلى حِدَّة الخطوط والتباين بين الألوان والدرجات، للتعبير عن قسوة المشاهد.
لا تبتعد الشخوص في لوحة خوري عن الأجواء الاحتفالية أو الكرنفالية، ولو في بعض المشاهد. ولو تعمق الناظر لوجد هذا المزج بين الاثنين حتى في اللوحات المنفردة. اللوحات التي تغطي صوراً رأسيّة هي ذات الحجم الكبير، أما الصغرى فهي تبدو وكأنها خارجة من قوس قزح، أو كأن قوس قزح قد بُثَّ فيها وفلش ألوانه عليها.
حفلة الألوان التي يراها المشاهد تثير لديه إحساساً بأنه أمام مشهد قبور. مخلوقات خوري تنقل للناظر إحساس الوحشة وكأنه في زيارة لمقبرة. مخلوقات واحدة داخل مقبرة جماعية مطعمة بالألوان، أو داخل مجزرة، وبهذا هي تقترب مما نحسّه ونعيشه اليوم. جيف ومخلوقات وحيوانات ورؤوس شبه بشريّة بلا روح، حتى تلك التي حافظت على قوامها داخل العمل الفني بقيت كأنها هلامية.هذه الأشياء بحركاتها تستوقفنا برحلة أوهام وتشويش وذبذبة محببة.
تنتصر أعمال خوري للتقنية والدّربة على حساب المعنى. فالرهان هنا يكمن في السّعي إلى خلق بنية شكلية تحفيزية للمتلقي، أكثر من تحميل العمل قصة محدّدة. تحفة المعرض كانت عبارة عن لوحة باللون الأزرق النيلي يتحدى فيها خوري نفسه، ويعطي مساحة أكبر لإدخال عناصر جديدة إلى اللوحة. الرؤوس غدت مموهة أكثر وبعيدة عن الزوائد والترويس، وكأنها مادة خام ينقلها بأعماله وتتحرّك بين المهمش والقلِق والعفوي.
يقول فرويد: “الحلم هو حركة مسرحية”. هذه الجملة قد تختصر بالتحديد ما تفعله أعمال شارل خوري، ترجمة لكل القصص داخل إطار لوحة وفضائها ، تدفعها دفعاً كي تخرج. التروما المعيشة أو المتخيّلة تخرج على شكل ألوان وزفير وفوضى وازدحام. وكأن هذه الكائنات تنحو نحو مسارات أخرى عبر اللطخ والتشظي، لترينا الدمار على مرآة محطمة وليس كما هو في الواقع.