“البعث” تدفع كاتبي سيرة الموسيقي لإعادة النظر في موقفه من الدين
بين عامي 1888 و1894 وبتردد وبطء لافتين، أنجز الموسيقي النمسوي غوستاف ثاني سيمفونياته، وهي تلك التي ستصبح إنما مع الزمن وطويلاً بعد رحيل الموسقي، الأكثر شعبية ونجاحاً بين السيمفونيات التسع التي لن يتمكن من إنجاز سواها طوال حياته، هو الذي أرعبته “خرافة استحالة تمكن الموسيقي الجيد من الوصول إلى العاشرة”، ومن هنا ستبقى سيمفونيته التاسعة آخر إنجازاته المكتملة في هذا المجال. ولكن هل حقاً يمكننا اعتبار السيمفونية الثانية عملاً أوركسترالياً خالصاً؟ ربما يصح أن نعتبرها، إضافة إلى ثلاث سيمفونيات أخرى من إبداع ماهلر، أكثر قليلاً من عمل سيمفوني. هي التي كانت بالأحرى محاولة خجولة لكتابة نوع خاص من الأوبرا، أو حتى من الأوراتوريو المرتل، يكشف إلى حد كبير عن توق ماهلر للسير على خطى أستاذه الكبير بيتهوفن ولا سيما بالنسبة إلى “تاسعة” هذا الأخير التي أدمج في حركتها الأخيرة نشيد “إلى الفرح” عن شعر فردريك شيلر مغنى من كورس ضخم اعتبر تدخله في ذلك العمل الموسيقي الكبير إنجازاً فنياً هائلاً. وهو التدخل الذي شاء ماهلر أن يحاكيه فنجح مرات وأخفق مرات، لكن نجاحه في “الثانية” أتى على أية حال قمة في عمله، مما أضفى على تلك السيمفونية المعنونة بـ”البعث” أناقة وجمالاً بديعين. ولعل عنوان “البعث” الذي بات جزءاً أساسياً من مسمى هذه السيمفونية ينطبق على موضوعها كما سنرى، ولكن أيضاً على مسارها.
سنوات طويلة لعمل واحد
ففي نهاية الأمر من المعروف أن هذا المسار يتشعب ليشغل السنوات العديدة التي استغرقها إنجازها. ففي البداية انطلق ماهلر في كتابتها من تلك القصيدة السيمفونية التي شغلته منذ استمع للمرة الأولى إلى شعر البولندي آدم ميتكفيتش المعنونة “جنازة”، لكنه حين عرضها على قائد الأوركسترا فون بيلو الذي كان يعتبر من كبار موسيقيي العصر، سخر هذا مما سمع ورفضها جملة وتفصيلاً قائلاً إنه ليس كل من يريد أن يكون بيتهوفن يتحقق له ذلك. مما جعل ماهلر ينحيها جانباً. ثم خلال السنوات التالية كان يعود لها بين الحين والآخر فكتب حركتين إضافيتين أوركستراليتين من دون أي شعر مرتل أو مغنى. ولكن لاحقاً حين رحل فون بيلو أصغى ماهلر في جنازته إلى قصيدة كتبها للمناسبة فردريخ كلوبستوك بعنوان “البعث” فقرر أن يستكمل العمل القديم على سبيل التحية لذاك الموسيقي الكبير الذي “أنقذ العمل برفضه أول الأمر”. ومن هنا ضم القصيدة الجيدة جاعلاً منها خاتمة – على طريقة “تاسعة بيتهوفن” – بعد أن أدمج في الحركة الأولى المعتمدة على قصيدة ميكيفتش “مشهد موت التيتان” في ختام سيمفونيته الأولى نفسها. ولكن ديبوسي الموسيقي الفرنسي الذي كان كبير القوم في هذا الفن حينها حسم الأمر، إذ خرج من القاعة التي كانت تقدم فيها ساخطاً شاتماً. وكان هذا يكفي لدفن السيمفونية مرة جديدة حتى وإن كان ذلك يعني دفنها نهائياً. وهكذا غابت “البعث” تماماً. غير أن النصف الثاني من القرن الـ20 جعل لها مصيراً آخر. وحسبنا للإشارة إلى هذا المصير الجديد أن نذكر بأن قائد الأوركسترا كلوديو آبادو اختارها لتكون برنامج أول حفلة كبيرة يقدمها. وكذلك سيفعل الإنجليزي سايمون راتل بدوره. وهكذا على خطاهما عادت تلك السيمفونية الثانية للحياة في “قيامة” فريدة من نوعها.
بعد غياب المبدع
غير أن غوستاف ماهلر (1860 – 1911) لم يكن آنذاك حياً ليشهد ذلك النجاح الذي حقق له بالفعل أمنيته القديمة: أمنية أن تكون تلك السيمفونية التي كتبها على مراحل وصاغها خلال سنوات كتوليفة بين عناصر عديدة، بل حتى لاحقاً كتوليفة شعبها واستخدمها في عديد من أعمال قصيرة أخرى له، أن تكون معادلة لما فعله بيتهوفن في تاسعته. فاليوم تعتبر “البعث” واحدة من أجمل سيمفونيات ماهلر كما أشرنا. بل تعتبر نوعاً من وصية فكرية – فنية له. وذلك لأنها في نهاية الأمر، تحاول أن تجيب على عدد كبير من أسئلة كان لا ينفك ذلك الفنان، عن طرحها على نفسه وتتعلق تحديداً بالإيمان والموت وعن “الحياة بعد الموت” والعلاقة بين الحياة والموت. ولئن كانت السيمفونية انطلاقاً من حركتها الأولى، التي تعتمد الشعر أساساً لها، في أداء الكورس كما الأداء الفردي، ووصولاً إلى حركتها الأخيرة التي تعود لاعتماد الشعر في تكامل بين القلق الذي تعبر عنه قصيدة ميكيفتش والإيمان الختامي الذي تعبر عنه قصيدة الحركة الخامسة نقلاً عن شعر كلوبستوك، لئن كانت تفعل ذلك، فإنها تحاول الدنو من تلك العوالم الوجودية في الحركات الثلاث الوسطى بشكل أوركسترالي خالص أبدع فيه ماهلر من خلال توزيع أوركسترالي قام به بنفسه، في تلك المرات العديدة التي تولى فيها قيادة الأوركسترا التي راحت تقدم الحركات الوسطى الثلاث منفردة أو مجتمعة ناقلة – بالموسيقى الخالصة – المعاني نفسها التي ستحملها الأشعار التي لم تجتمع بشكل جدي ومقبول خلال حياته مع الموسيقى الخالصة إلا في مرات نادرة.
تعارض مع بيتهوفن!
ومن ذلك حين قدمها ماهلر كاملة في فيينا تحت قيادته عام 1900 ليكرر التجربة بعد ذلك بثلاثة أعوام ، في لندن عام 1903، وأخيراً في نيويورك عام 1909 في خاتمة لم تكن موفقة قبل رحيله بعامين. ولعل السبب الأساس في كل ذلك “الفشل” الذي كان من نصيب سيمفونية “البعث” حين قدمت في حياة ماهلر، كان بيتهوفن نفسه وحتمية المقارنة بين عملين يدعي ثانيهما أنه يسير على الدرب نفسه الذي سار عليه الأول. ومن هنا احتياج ماهلر للرحيل واستقلال عمله عن ذكرى التأثيرات التي كانت عليه، ولا سيما تأثيرات بيتهوفن التي تشمل عديداً من العناصر الأخرى بما في ذلك “استعارات” من كونشريو “البطولة” في الحركة الأولى، غير عنصر الأوراتوريو والنهل من الشعر المعروف، كي تتخذ “البعث” كينونتها الخاصة وتتحرر من بيتهوفن. بل كي تتخذ مساراً وجوهراً شديدي الاختلاف وتحديداً انطلاقاً من كونها – ومن ناحية بعدها الفلسفي / الديني – تنتمي إلى فكر متعارض تماماً مع فكر بيتهوفن الذي أملى على هذا الأخير فكرانية “التاسعة” تحديداً كأنشودة فرح موجه إلى الحياة مستعيناً على ذلك بشعر شيلر.
أسئلة شائكة
فمن ناحية مبدئية، حتى ولئن بدت “ثانية” ماهلر بشكل أو بآخر بطيئة وحزينة حتى بدايات حركتها الخامسة، فإن ذلك إنما يعود لكون مؤلفها جعل منها نوعاً من تأمل فكري يطرح أسئلة شائكة وحائرة حول معنى الحياة. وتكاد تلك الأسئلة أن تبدو نهائية في دلالاتها السوداوية في ذلك الزمن الذي كان قادراً على أن يجعل كل ذلك النمط من الأسئلة ممكناً. ولكن فجأة، وفي تلك الحركة الخامسة التي يهيمن عليه شعر كتب تحت شعار “القيامة” يتبنى تماماً مفهوم انبعاث الكائنات من موتها لتعيش يوم الحشر انبعاثاً للأرواح تحاسب على ما فعلت حسناً أو قبحاً. من الواضح أن ماهلر يتبنى تماماً لغة الإيمان الديني من منطلق أن الموتى سيبعثون من جديد ليعيشوا خالدين تبعاً لما اقترفت أيديهم. وتلك أتت على أية حال نهاية متفائلة بالمفهوم الديني – الأخلاقي للكلمة، بل ربما أتت جديدة حينها على مفهوم ماهلر الديني نفسه. ولعل ذلك ما فسر تطوراته الفكرانية خلال السنوات العديدة التي مرت منذ بداية اشتغاله على عمل موسيقي كبير كان يتوخى منه أن يبدو شكوكياً أول الأمر ليتحول إلى يقين مطلق في النهاية. ولسنا ندري ما إذا كانت تلك القلبة لعبت دوراً في رفض المستمعين للعمل، أول الأمر، لتنقلب الآية بعد ذلك، أي بعد أن فهمت السيمفونية لاحقاً بشكل مختلف.
تحت شعار المفاجآت
المهم في الأمر أن “البعث” عادت لتعيش حياة ثانية بعد ثلثي قرن من رحيل صاحبها. ولسوف تتبدى حياة غنية مكللة بالغار. بل حتى حياة مختلفة تماماً لا شك أن كثراً من الباحثين سيكونون محقين حين يستندون إليها منذ أواسط القرن الـ20 في إعادة كتابتهم لسيرة حياة ذلك الموسيقي الذي ربما يصح القول إنه عاش جزءاً من حياته تحت شعار المفاجآت وكانت سيمفونيته الثانية “البعث” واحدة منها بالتأكيد.