في القرن التاسع عشر عندما كان العثمانيون والعرب يريدون التقدم ويلتمسون سبيله كان الحديث عن أوروبا باعتبارها النموذج المبتغى من الحداثيين والإصلاحيين. وإنما كانت مشكلة المشاكل في هذا الوعي ذاته أنّ أوروبا كانت قارة الإغارة والاستعمار. وما أمكن الوصول إلى بعض التجاوز للمشكل إلاّ عندما ظهرت الحركات الاستقلالية التي تريد إخراج الأوروبيين من الديار بالقيم المستعارة من أوروبا نفسها! أمّا مصطلح أو مفهوم الغرب السياسي والحضاري فبدأ شيوعه في القرن العشرين عندما تدخلت الولايات المتحدة الأميركية لإنقاذ أوروبا مرتين في الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945). وقد استند هذا الدعم إلى الهويتين النسبية والحضارية. فالأميركيون والكنديون والأوستراليون من أصولٍ أوروبية محفوظة ومراعاة وإن خاضوا صراعات ونزاعات للاستقلال السيادي والسياسي عن تلك الأصول. وعلى كثرة النقاشات في علاقة الأصل بالفرع الذي صار أهمَّ وأقوى بكثير؛ فإنّ استتباب المصطلح (=الغرب) بعد الحرب الثانية إلى جانب اعتبار الأصول، علته الضرورات الاستراتيجية حيث ما عادت أوروبا قادرة بمجموعها على الوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي، كما لم تستطع من قبل الصمود في وجه ألمانيا النازية. رمسفيلد الوزير البارز في إدارة بوش الابن، ثم دونالد ترمب الرئيس الأميركي السابق سمّيا أوروبا القارة العجوز وهما يقصدان عدم القدرة على الدفاع عن النفس والحاجة إلى أميركا (الحلف الأطلسي) في ذلك، وفي الوقت نفسه يتجرأ بعض الأوروبيين على الخروج على إرادة الولايات المتحدة في مسألة مثل الحرب على العراق، ومثل بعض المواقف المتمايزة كما في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني أو قضية الشرق الأوسط!
قبل أربعة أشهر صدر للبروفسور ماك سويني كتاب نقدي عنوانه «الغرب – تاريخ الفكرة وتطوراتها». وفي الكتاب نقد كبير للتمييز الذي يمارسه «الغرب» تجاه الحضارات الأُخرى منذ عصورٍ وحتى اليوم. فحتى عندما كانت أوروبا مسيحية كانت تعتبر نفسها مميَّزةً دينياً وإثنياً على الصينيين والهنود والمسلمين. وفضلاً على أن كل حضارة تعتبر نفسها مميزة؛ فإنّ الحديث قبل الأزمنة الحديثة كان يدور حول «أوروبا» في الغالب وليس حول «الغرب». أما أوروبا باعتبارها «هوية» مميزة فقد بدأ التفكير فيها في زمن النهضة بعد القرن السادس عشر، والارتباط بالتراثين اليوناني والروماني. ويلفت المؤرخون للدولة القومية إلى أنّ فكرة أوروبا حتى باعتبارها «قومية» لقيت دفعاً مع حركة الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن التاسع عشر وقد تطوع أوروبيون من مختلف البلدان (نموذج اللورد بايرون!) إصغاءً لنداءات الوحدة الأوروبية والهوية الأوروبية الواحدة والمستمرة منذ حضارة الإغريق!
مسألة «الغرب» مختلفة، وتكونت في القرن العشرين، والعامل الرئيسي فيها الولايات المتحدة، وقد بدأت قرابية واستراتيجية ثم صارت في الحرب الباردة حضارية ومباراة في «التفوق الأخلاقي» على ما وراء الستار الحديدي بالحريات وبالديمقراطية وحتى بالنجاح الرأسمالي! ولا يزال الأمر يتطور حتى سقط الاتحاد السوفياتي – كما سقطت أسوار أريحا في العهد القديم -، وطوّر هنتنغتون فكرة الحضارة اليهودية – المسيحية التي تتبارى معها حضارات أخرى لن تلبث أن تنضمّ إليها حتى في القيم الحضارية باستثناء الإسلام الذي يملك تخوماً منبعةً مع الحضارة الغالبة مغمسةً بالدم!
صورة «الغرب» المعاصر رغم تردّي الصورة في اصطدامها بالواقع، تلتقي مع الصورة الأوروبية عن الذات في ما بين زمان النهضة والأنوار وزمان الاستعمار. وكتاب سويني يذهب إلى أنّ الصورة متضمنة في نظام الفكر الأوروبي والغربي حتى اليوم. وصحيح أن الكاتب الألماني شتيفان فايدنر في كتابه «ما وراء الغرب»، يعالج مسألة التفوق والتمييز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ لكنه يرى معالم باقية لذلك ظهرت حتى في الحرب الروسية – الأوكرانية!
وما عدنا في حاجةٍ إلى تلمُّس معالم أو مضامين مستبطنة بعد الحرب بين إسرائيل و«حماس»؛ فقد ظهر ذلك بأجلى وضوح ولثلاث جهات: الاستثناء لإسرائيل واليهود باعتبارهم أقلية مهددة بالفناء أو الإفناء من أعداء السامية – والحضارة اليهودية – المسيحية التي ينبغي حفظ عاملها الأول – وحضارة التحرر والنضال والاستنارة والتي قادها اليهود ضد النازية وفي المدارس النقدية كما بدا في بيان يورغن هابرماس الفيلسوف الألماني البارز. وصحيح أنّ كثيرين غربيين من أنصار إسرائيل يبدأون أحاديثهم بمقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ لكنهم ما يلبثون أن يقولوا إنهم يهود (بلينكن) أو صهاينة (الرئيس بايدن). وما قالت وزيرة خارجية ألمانيا في حديثٍ مع «العربية» إنها يهودية أو صهيونية، لكنها ما أنكرت أنّ إسرائيل استثناء وأن مدنييها هم بمعنًى من المعاني أغلى من مدنيي غزة وأطفالها. بيد أنّ الإعلاميين الدوليين والعاملين في المؤسسات الإنسانية العالمية بدوا مروَّعين أكثر بسبب الفيتو الأميركي على المشروع العربي في مجلس الأمن والذي يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية!
غوتيريش الأمين العام للأُمم المتحدة معني بوحدة المعايير في مجلس الأمن وفي القانون الدولي. وعندما حاول أحد الإعلاميين أن يلفت انتباهه إلى أنّ «حماس» هي التي بدأت الحرب، أدان غوتيريش ذلك بشدة وطالب «حماس» بإطلاق سراح المحتجزين. لكنه تابع قائلاً: لا يجوز التوقف عند هذا التصريح ضد هجوم «حماس»، بل لا بد من النظر في أحوال المدنيين بغزة في الشهرين الأخيرين، حيث تُزالُ كل آثار الحضارة وإنسانية الإنسان.
مسألة: «الحضارة» وهي عارضة في إجابة غوتيريش، تعيدنا إلى «الغرب» ومفاهيمه الحضارية والإنسانية والتي صارت قوانين نافذة في ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان. لا يقبل غوتيريش ولا رئيس «الأونروا» ولا رئيس الصليب الأحمر ازدواجية المعايير. أما السياسيون «الغربيون» فلا يعتبرون هذه القوانين والتنظيمات ساريةً على قدم المساواة، وفي حسبانهم أنّ هذه القوانين نافذة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وشعبها، لكنْ لا يصح إنفاذها لدى الأطراف الأُخرى المتصارعة مع الكيان المحتلّ لأنهم لا ينتمون إلى الحضارة اليهودية – المسيحية أو حضارة الأمل والتحرر والتنوير. ولا يحتاج الأمر إلى تخمينٍ كثيرٍ فالاختلاف هنا في الحقيقة هو اختلافٌ في «القيمة الإنسانية» التي يتشارك فيها الغربيون مع شعب إسرائيل مهما احتلّ ومهما مارس، ولا يتشارك فيها مع الآخرين حتى لو كانوا أطفالاً لا يعرفون معنىً للنزاع كله.
حضارة الغرب شأنها في ذلك شأن حضارة أوروبا من قبل تبدو مقاييسها الآن ذاتية وليست عالمية أو إنسانية!