في الواقع، خسرت إيران الحرب قبل أن تبدأ. يفترض بإيران قبول الاستسلام، لا لشيء إلّا لأنّ الحرب التي تشنّها إسرائيل، بدعم أميركي، هي استمرار لحروب بدأت مع “طوفان الأقصى” في غزّة. خسرت إيران كلّ الحروب التي خاضتها منذ حصول “طوفان الأقصى”.
لا يمكن عزل الحرب الإيرانيّة – الإسرائيلية عن حرب غزّة التي وجدت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، من خلالها، فرصة لتأكيد امتلاكها لمفاتيح الحرب والسلام في المنطقة كلّها. ما كان للحرب أن تصل إلى إيران نفسها لولا أنّها لعبت في الأساس دوراً في هجوم “طوفان الأقصى” الذي شنّته “حماس” بقيادة يحيى السنوار على مستوطنات غلاف غزّة في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023.
أدّى الهجوم إلى مقتل نحو 1,200 يهودي، معظمهم من الإسرائيليين. لا يزال لدى “حماس” أسرى يهود. يشكّل هؤلاء الورقة الأخيرة التي تمتلكها الحركة. في الحقيقة، باتت الورقة التي تمتلكها “حماس”، أي ورقة الرهائن، منسيّة في ضوء الحرب الإيرانية – الإسرائيليّة. من هذا المنطلق، ومن أجل عدم نسيان المأساة الكبرى المتمثّلة في غزّة، كان على الملك عبدالله الثاني الذهاب إلى استراسبورغ ليقول في خطاب ألقاه قبل أيّام قليلة أمام البرلمان الأوروبي إنّ الحرب الإيرانيّة – الإسرائيلية يجب ألّا تجعل مأساة غزّة مسألة ثانوية.
لدى ترامب حساب يريد تصفيته مع “بيبي” نتنياهو الذي جرّه إلى الحرب مع إيران جرّاً ووضعه أمام أمر واقع كان يفضّل تفاديه
بناء عصر جديد
ليس من وصف دقيق لما يشهده العالم والمنطقة أكثر من الوصف الذي قدّمه العاهل الأردني أمام البرلمان الأوروبي. وضع عبدالله الثاني، الذي أثبتت الأحداث والتطوّرات العالميّة قدرته على استشفاف المستقبل، النقاط على الحروف. قام عمليّاً بمحاولة متواضعة لوضع العالم أمام مسؤوليّاته مركّزاً على الدور الأوروبي والدولي في العمل من أجل السلام والعدل. يشمل ذلك، في طبيعة الحال، وضع حدّ للتصعيد بين إيران وإسرائيل حيث يرى رئيس الحكومة أن لا خيار آخر أمامه سوى متابعة خوض حروبه لضمان مستقبله السياسي.
لا يعود توجّه العاهل الأردني إلى أوروبا إلى قرب القارّة العجوز جغرافيّاً من المنطقة فحسب، بل إلى وجود تجربة أوروبية لا يمكن تجاهلها أيضاً. إنّها تجربة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. قال عبدالله الثاني موجّهاً كلامه إلى النوّاب الأوروبيّين: “بعد الحرب العالمية الثانية، اختارت أوروبا إعادة البناء، ليس لمدنها فقط، بل للركائز التي تأسّست عليها، إذ صمّمت شعوب أوروبا على ترك الماضي خلفها وبناء عصر جديد من السلام. اختار الأوروبيون الكرامة الإنسانيّة عوضاً عن الهيمنة، والقيم عوضاً عن الانتقام، والقانون عوضاً عن القوّة، والتعاون عوضاً عن الصراع”.
بغضّ النظر عن الجنون الإسرائيلي الذي لا حدود له، يبدو أنّ القيادة في إيران، وعلى رأسها “المرشد” علي خامنئي، مستعدّة لتقديم كلّ الأعذار التي تطلبها حكومة الدولة العبرية من أجل متابعة حروبها وجعل غزّة قضيّة منسيّة.
ترامب
تؤكّد مأساة غزّة مدى استعداد إسرائيل للذهاب بعيداً في استخدام الوحشيّة، فيما تؤكّد اللغة الخشبية التي تستخدمها طهران العجز عن فهم الواقعَين الإقليمي والعالمي، بما في ذلك أنّ الحرب الدائرة حاليّاً مع إسرائيل هي حرب لا يمكن إلّا أن تنضمّ إليها أميركا في مرحلة معيّنة.
لا يعود توجّه العاهل الأردني إلى أوروبا إلى قرب القارّة العجوز جغرافيّاً من المنطقة فحسب، بل إلى وجود تجربة أوروبية لا يمكن تجاهلها أيضاً
يتمثّل كلّ ما يريده دونالد ترامب حاليّاً في الرغبة في أن يكون هو الرابح الأوّل من الانتصار الذي لا بدّ أن يتحقّق على إيران. في الوقت المناسب، سيفرج الرئيس الأميركي عن القنابل الضخمة التي ستحتاج إليها إسرائيل لتدمير المشروع النووي الإيراني وما بقي لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” من صواريخ بالستية. لدى ترامب حساب يريد تصفيته مع “بيبي” نتنياهو الذي جرّه إلى الحرب مع إيران جرّاً ووضعه أمام أمر واقع كان يفضّل تفاديه.
كلام منطقي وعاقل
في ظلّ هذه الصورة القاتمة، كانت هناك حاجة لدى العاهل الأردني إلى تقديم وصف دقيق لحال العالم. كان مهمّاً، بالنسبة إليه، عدم الاكتفاء بالوصف… مهما بلغت دقّته. أصرّ على تأكيد وجود “قيم تجمعنا”. أشار إلى أنّ العديد من هذه القيم “متجذّرة في أدياننا: الإسلام والمسيحية واليهودية”. هذه القيم موجودة “لتقيم الرحمة والعدل والمساواة”. كان الخطاب دعوة إلى العودة إلى القيم، وكان صرخة رجل يتألّم في ضوء المأساة التي تشهدها غزّة حيث “إذا فشل المجتمع الدولي في التصرّف بشكل حاسم، فسنصبح متواطئين في تعريف معنى أن تكون إنساناً.”
خلاصة الخطاب الذي ألقاه عبدالله الثاني أنّ الحاجة إلى البحث عن مخرج بدل الاستسلام للعنف ومنطق القوّة. لذلك يؤكّد العاهل الأردني المرّة تلو الأخرى أنّ القوّة ليست حلّاً، وأنّ الحاجة إلى حلول سياسية قبل أيّ شيء آخر، خصوصاً في وقت تزداد فيه الحرب الإيرانيّة – الإسرائيلية ضراوة.
يتمثّل كلّ ما يريده دونالد ترامب حاليّاً في الرغبة في أن يكون هو الرابح الأوّل من الانتصار الذي لا بدّ أن يتحقّق على إيران
هناك إدراك أردنيّ واضح لخطورة المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. عانت المملكة الأردنية الهاشمية دائماً من السعي الإيراني إلى التدخّل في الشؤون الداخلية للمملكة وإيجاد حال من عدم الاستقرار فيها. كان هناك دائماً جهل إيراني بالأردن وبما يمثّله، وذلك على الرغم من أنّ كلّ المحاولات التي قامت بها “الجمهوريّة الإسلاميّة” من أجل المسّ بالأردن باءت بالفشل.
هل بقي مكان لكلام عاقل ومنطقي في ظلّ هذا الجنون الذي يشهده العالم، جنون إسرائيل وجنون إيران، وجنون الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة على سبيل المثال لا الحصر؟
إقرأ أيضاً: ترامب: ينام على الحرب.. يستيقظ على التّسوية
يبقى كلام عبدالله الثاني كلاماً لمرحلة تهدأ فيها النفوس. في انتظار ذلك، لا مجال أمام إيران سوى التصعيد في وقت يخوض فيه النظام معركة حياة أو موت. لا مجال أمام نتنياهو سوى خوض حروبه. لا مجال أمام دونالد ترامب سوى السعي إلى القول أنّه مَن انتصر على إيران، وإنّ الفضل يعود إليه وليس إلى إسرائيل في تخليص المنطقة والعالم من برنامجها النووي ومن صواريخها ومن أذرعتها.