يمكن القول إنّ النتيجة الأهمّ والمباشرة للحرب التي بدأتها تل أبيب على إيران أنّها أعادت رسم المعادلات داخل النظام الإيراني ومراكز القرار، بمعنى أنّها استطاعت إنهاء مسار الحوار والدبلوماسية الذي رافق الحملة الانتخابية للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وقضت على كلّ الجهود التي بذلها الفريق الذي ارتدى ثياب الحمائم فوق ثياب الصقور، ومارس دوراً مؤثّراً في إحداث تغيير في موقف المرشد الأعلى، القائم أساساً على انعدام الثقة بالمفاوض الأميركي وإمكان التوصّل معه إلى نقطة تفاهم.
لا يعني أداء الحمائم الذي مارسه جزء من الدولة العميقة عدم وجود تيّار الحمائم في تركيب الدولة الإيرانية، إذ يعبّر عن هذا التيار العديد من الأصوات الإصلاحيّة أو المعتدلة، وحتّى أصوات من داخل التيّار المحافظ، انطلاقاً من حرصها على تجنيب إيران الوصول الى حرب مدمّرة ومفتوحة لن تكون مقتصرة على إسرائيل، بل في الحقيقة ستكون مباشرة مع الولايات المتّحدة الأميركية وحلف الناتو، على مبدأ إعطاء الحوار والتفاوض فرصة تسمح بالوصول إلى نوع من تفاهم الحدّ الأدنى، وتبعد عن إيران تجرّع الكأس المرّة للحرب.
لا يعني أداء الحمائم الذي مارسه جزء من الدولة العميقة عدم وجود تيّار الحمائم في تركيب الدولة الإيرانية
فخّ الانتصار
أعاد العدوان الإسرائيلي، الذي بدأ فجر يوم الثالث عشر من حزيران، ترتيب تفاصيل المشهد الايراني، وأعاد تركيز القرار في يد الثنائي المتشكّل من المرشد الأعلى والمؤسّسة العسكرية، وتحديداً حرس الثورة الإسلامية، أي لم تعد تسمح التطوّرات الحاصلة وحجم التحدّي المصيريّ الذي يواجهه النظام لهذه الجهات بإفساح المجال لتقديم المؤسّسة الرسمية والجهد السياسي على الجهد العسكري، ولم تعد الدبلوماسية قادرة على أن تكون فاعلة في المشهد القائم، بل يجب عليها أن تكون خلف الموقف العسكري ومتناغمة معه ومنفّذة لما يريده، في إطار إعادة إحياء معادلة تقدّم الميدان العسكري على الميدان الدبلوماسي والسياسي.
في مقابل الشرط الذي جعلت فيه الدولة العميقة ومركز القرار الأعلى وقفَ الاعتداءات الإسرائيلية مقدّمةً ومدخلاً لعودة طهران إلى طاولة التفاوض، قد تظهر مخاوف إيرانية من إمكان أن تذهب المؤسّسة العسكرية وضرورات الميدان إلى السقوط في فخّ امتلاك القدرة المطلقة على تحقيق انتصار حاسم على العدوّ الاسرائيلي يجعلها قادرة على إعادة تصويب المسارات وفرض تغيير في معادلات الشرق الأوسط التي بدأت تتبلور بعد سقوط النظام السوري وما لحق بالامتداد والعمق الاستراتيجي لإيران من صدمات وضربات.
الخسائر التي لحقت بصفوف القيادات العليا لحرس الثورة، التي كانت في مرحلة ما شريكة في القرار إلى جانب المرشد، وتعويضها بقيادات جديدة أكثر انقياداً وطواعيةً في يد المرشد الأعلى بوصفه القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، تعزِّز الموقف الذي ذهب إليه المرشد، وفيه أنّ الاستمرار في المعركة والتمسّك بقرار المواجهة يسقطان أيّ إمكان لإسقاطه ويبعدان إيران عن دائرة الخطر والمخطّطات التي وضعتها القيادة الإسرائيلية بالتعاون مع واشنطن وحلف الناتو لمستقبل إيران وأهداف هذه الحرب.
أن لا تسعى إيران إلى تحقيق حسم تامّ في المعركة لمصلحتها يعني أن لا تواجه المصير الذي رُسم وخُطّط لها في الدوائر المغلقة
لا شكّ أنّ المرشد الأعلى ودوائر القرار المشاركة معه، أي مركز صناعة القرار، مطالَبة الآن، وبعد استيعابها للصدمة الأولى للهجوم الإسرائيلي، أن تضع مساراً دقيقاً قائماً على حسابات أكثر دقّة للموازنة بين حدود الربح الممكن وهاوية الخسارة المطلقة، وأن توازن بين قدرات الميدان والضرورات السياسية، وتترك الطريق سالكاً أمام فتح نافذة الدبلوماسيّة للخروج بإيران من دائرة الخطر.
إيران
أن لا تسعى إيران إلى تحقيق حسم تامّ في المعركة لمصلحتها يعني أن لا تواجه المصير الذي رُسم وخُطّط لها في الدوائر المغلقة وكواليس العواصم الغربية وتعمل إسرائيل على تنفيذه. ويعني أيضاً أن يمسك المرشد الأعلى باللحظة المناسبة للانتقال إلى تفعيل الميدان الدبلوماسي، بحيث يجعل من الميدان العسكري مكمّلاً ومؤازراً للفعل السياسي والدبلوماسي في هذه اللحظة المصيرية التي تحمّله مسؤولية دقيقة وتاريخية عن إبعاد المنطقة عن المزيد من الحروب والخسائر.
دعوة لالتقاط اللّحظة
من المفترض أن لا تكون ذاكرة المرشد الأعلى قد غادرت ما عايشه عندما كان يشغل منصب رئيس الجمهورية وعضويّة المجلس الأعلى للدفاع ممثّلاً الزعيم المؤسّس السيّد الخميني، وما حصل في الحرب العراقية الإيرانية عندما فوّتت إيران فرصة التوصّل إلى وقف إطلاق النار بعد تحرير مدينة خرمشهر في أيّار عام 1982، الذي يعني تحقيق نصر على العراق وتحميله مسؤوليّة البدء بالحرب ودفع التعويضات. فقد أعاد الإصرار والتمسّك باستمرار الحرب قلب الموازين لغير مصلحة إيران وكلّفاها الكثير من الخسائر المادّية والاقتصادية والبشرية والسياسية والعسكرية، خاصة أنّ المراحل الأخيرة لهذه الحرب شهدت دخولاً مباشراً لواشنطن إلى جانب العراق.
يمكن القول إنّ النتيجة الأهمّ والمباشرة للحرب التي بدأتها تل أبيب على إيران أنّها أعادت رسم المعادلات داخل النظام الإيراني ومراكز القرار
أجبر استمرار الحرب وحجم الخسائر عام 1988 إيران على الجلوس إلى طاولة التفاوض والقبول بأقلّ ممّا كان معروضاً عليها قبل خمس سنوات، ولم يكن أمامها سوى إعلان القبول بوقف الأعمال الحربية وتطبيق القرار 598 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
ليس ما سبق دعوةً لإيران إلى الاستسلام والتخلّي عن حقوقها القانونية والسياسية والتكنولوجية، وعن أن تمتلك برنامجاً نوويّاً سلميّاً تضمنه القوانين الدولية ومعاهدات الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، وعن أن تنعم باقتصاد يليق بمكانتها وطموحات الإيرانيين، وعن أن تكون دولة صاحبة دور في منطقة غرب آسيا، فالشروط الجيوسياسية والجيوقتصادية والاستراتيجيّة تجعل منها لاعباً طبيعيّاً لا يمكن تجاوزه، لكن ليس على حساب الآخرين، ولا أعني الإسرائيلي، بل الدول ذات الثقل والتأثير التاريخي في هذه المنطقة، وبالأخصّ دول الجوار العربي.
إقرأ أيضاً: إيران تفقد أذرعها: القلعة الحصينة أم الدّولة الحاجز؟
هي دعوة إلى التقاط اللحظة المناسبة وعدم الذهاب بعيداً في خيارات الميدان، بإعادة فتح باب الحوار مع المجتمع الدولي وتحميله مسؤوليّة تقاعسه عن القيام بدوره في حلّ أزمات هذه المنطقة المأزومة بالصراعات المستدامة، خاصّة الجريمة المستمرّة بحقّ الشعب الفلسطيني، وهو ما قد يسمح لها بتحميل إسرائيل مسؤوليّة البدء بالعدوان والتأسيس لمسار جديد من الجهود السياسية تنقل المنطقة إلى مرحلة جديدة أكثر استقراراً.