في تشرين الأول من العام 2023، ومع اندلاع حرب غزة، واجه لبنان تحذيرات أميركية حاسمة. ففي لقاء تلفزيوني، قال الرئيس الأميركي السابق جو بايدن: “Don’t, Don’t, Don’t”، في إشارة إلى ضرورة عدم توسّع الصراع ليشمل الحدود اللبنانية. لكن، وعلى الرغم من هذه التحذيرات، دخلت المواجهة إلى الجنوب اللبناني، حيث أطلق “الحزب” صواريخ موجهة ورشقات مدفعية على مواقع إسرائيلية في مزارع شبعا، تضامناً مع غزة. وردّت إسرائيل بقصف مواقع في الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان.
وقد حوّلت هذه التطورات الحدود إلى جبهة ساخنة، وتحقّقت المخاوف من أن لبنان قد يصبح مرّة جديدة ساحةً لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية، وها هي هذه المخاوف تعود مجدداً مع احتدام الحرب بين إيران و”الحزب”.
في موازاة ذلك، أدرك المسؤولون اللبنانيون خطورة الوضع. فقد حرص الرئيس نبيه برّي على طمأنة اللبنانيين بأن “لبنان لن يدخل الحرب بنسبة 200%”، لأنه “لا مصلحة لنا في ذلك وسندفع الثمن”. ومن جهته، كرّر رئيس الحكومة نواف سلام التزامه بسياسة الحياد.
في المقابل، أكّد نائب أمين عام “الحزب” الشيخ نعيم قاسم رسمياً أنّ الحزب “ليس محايداً”، وأنه يقف إلى جانب إيران في وجه ما وصفه بـ”باطل أميركا وإسرائيل”، تحت شعار أنّ “الحزب” يتمسك بخيار المقاومة ما دامت إسرائيل تحتل أراضٍ لبنانية، بينما يضغط لبنان الرسمي نحو انصياع الدولة ومؤسساتها لموجبات الحياد.
اليوم مع الإدارة الاميركية الجديدة تبدو الأمور أكثر صرامة على الأقل في الأسلوب، وأكثر ميلاً إلى اعتماد الحلول الحاسمة لا الدبلوماسية الطويلة النفس
موقف أميركي صارم
اليوم مع الإدارة الاميركية الجديدة تبدو الأمور أكثر صرامة على الأقل في الأسلوب، وأكثر ميلاً إلى اعتماد الحلول الحاسمة لا الدبلوماسية الطويلة النفس. ولهذا تحديداً، جاءت زيارة المبعوث الأميركي لدى سوريا توم باراك إلى بيروت، حاملاً رسائل واضحة من واشنطن، مهما حاول اللبنانيون تلطيفها، وقد أوضحت مصادر دبلوماسية لـ”أساس” إنّ “التهذيب والهدوء الذي أتى به باراك لا يعني مرونة من الأميركي. وكل كلام غير ذلك هو انكار للواقع”.
لبنان
في الرسائل الحاسمة التي وصلت إلى لبنان ثلاث خلاصات:
1- عدم المشاركة في الحرب الإيرانية – الإسرائيلية: حذّر باراك من أي انخراط لـ”الحزب” في المعركة، قائلاً إنّ “أي مشاركة ستكون قراراً سيئاً جداً جداً جداً”. وأكدت الإدارة الأميركية أنّ لبنان مدعو إلى البقاء بعيداً عن أي صراع إقليمي.
2- حصر السلاح بيد الدولة: ذكّر باراك بأنّ بنود وقف إطلاق النار الأخير (عام 2024) تشدّد على عدم السماح بوجود أي سلاح خارج سلطة الدولة. وكرّس في اللقاء مع رئيس الجمهورية جوزف عون ضرورة أن “تكون الدولة وقطاعاتها الرسمية وحدها صاحبة القرار العسكري والسيادي”، منسجمة بذلك مع موقف واشنطن المعلن بأن “الحكومة اللبنانية مسؤولة عن نزع سلاح الحزب”
3- ضرورة التنفيذ الفوري والملزم: أكّد الموفد الأميركي أنّ تنفيذ هذه المطالب يجب أن يتم دون تأخير أو تردّد، مشدداً على أنّ ملف ترسيم الحدود ونزع السلاح ليس قابلاً للتفاوض. وتماشياً مع ذلك، شدّدت واشنطن على أنّ أي تأجيل سيُعدّ إخلالاً بالاتفاقات الدولية التي تشترط نزع سلاح المجموعات الخارجة عن سلطة الدولة.
بحسب مصادر “أساس”، فإن مورغان أورتاغس، المبعوثة السابقة إلى لبنان، ستتولى رئاسة البعثة السياسية في الأمم المتحدة
الحق في الردع
انعكس هذا الضغط الدولي على المشهد الداخلي. ففي جلسات مجلس الوزراء، كرّر بعض الوزراء رفضهم لفكرة دخول لبنان الحرب، مع دعوتهم إلى “تأكيد الحياد”، مستشهدين بتصريحات الرئيس نبيه برّي المتكررة.
لكن التحذيرات الأميركية الأخيرة لم تثنِ “الحزب” عن التذكير بأنه سيحافظ على حقه في الدفاع. ومع ذلك، اتّسم موقف “الحزب” بحذر نسبي، كما لاحظه محلل مقرّب منه بقوله إن “حزب الله حريص حتى الآن على عدم الرد، وترك القرار للحكومة وللجيش اللبناني”.
في سياق الاحتكاك المتصاعد، شهدت المنطقة أيضاً حراكاً عسكرياً أميركياً كبيراً. فقد نشرت واشنطن بطاريات صواريخ وبوارج حربية وطائرات مقاتلة في الخليج والبحر الأبيض المتوسط لتعزيز حماية إسرائيل من أي تهديد إيراني استثنائي. وسارعت إلى توفير مظلة جوية ودفاعية؛ حيث تستخدم القطع البحرية الأميركية لاعتراض الصواريخ الصادرة من إيران، بينما باتت حاملتا طائرات حربيتان أميركيتان (USS Nimitz وCarl Vinson) حاضرة لمساندة القوات الأميركية وقواعدها بالمنطقة. فيما قللت المصادر الأميركية من دور المقاتلات الاستراتيجية، فقد أوضح تقرير لوكالة “أسوشييتد برس” أنّ الولايات المتحدة لم تنشر حالياً أي قاذفات استراتيجية من طراز B-2 في الشرق الأوسط بالرغم من تحريكها باتجاه المحيط الهادئ، مكتفية بأسلحة أخرى موجودة بالفعل (مثل قاذفات B-52).
في تشرين الأول من العام 2023، ومع اندلاع حرب غزة، واجه لبنان تحذيرات أميركية حاسمة
خيارات واضحة
لا يمكن فصل زيارة توم باراك عن التطورات المرتقبة في الأمم المتحدة. وبحسب مصادر “أساس”، فإن مورغان أورتاغس، المبعوثة السابقة إلى لبنان، ستتولى رئاسة البعثة السياسية في الأمم المتحدة. هذا يعني أنها ستتابع الشأن اللبناني من موقع أكثر تأثيرًا، لا سيما في ملف التجديد لقوات اليونيفيل، والذي يبدو في مهب الريح هذا العام. فواشنطن تميل إلى عدم التجديد، وسحب التمويل، واستبدال اليونيفيل بـ”لجنة مراقبة دولية” موسعة الصلاحيات.
إقرأ أيضاً: لاكروا: التّجديد لليونيفيل “أصعب”.. لكنّه ممكن
لبنان يقف عند مفترق حاسم: إمّا الالتزام بالقرارات الدولية وإعادة ضبط مؤسسات الدولة وسلاحها الواحد، وإمّا الانجرار إلى مواجهة قد يكون الثمن فيها باهظاً جداً. فقد وسّعت اتفاقات وقف القتال الأخيرة المناطق الخاضعة لمنع تسليح “الحزب”، وأكّدت أنّ السلطات الرسمية فقط هي المصرح لها بحمل السلاح، ممّا يجعل الخيار “الرمادي” غير متاح. وعليه، فإن الحكومة مطالبة باتخاذ قرار واضح وسريع لتحقيق الاستقرار؛ لأن استمرار الانقسام حول دور السلاح مقابل الدولة، سيفاقم التكلفة على الجميع.